إن في الصمت.. كلام
الصدفة وحدها هي التي قادتنا الى تلك المنطقة.. كنا في طريقنا لزيارة أصدقاء لنا.. اختاروا أن يسكنوا في أطراف العاصمة.. مجمع سكني فاخر.. قضوا نصف عمرهم في تكملة أقساط البيت.. كانت المرة الأولى التي نزورهم فيها هناك.. وتحتم علينا شق تلك المنطقة للوصول إليهم.
البؤس كان مرسوماً على الوجوه لا تحتاج الى كثير تمعن لتعرف حجم المعاناة.. البيوت التي عمادها الطين والكرتون.. الأسمال البالية التي تكاد تغطي العورة.. والجموع غفيرة.. البشر يتدافعون أثناء سيرهم.. لا أحد يلتفت لينظر إليك.. كل يمضي ساهماً في طريقه.. الفقر يمشي بين الناس (ويتقدل)..
هنا لا تصلح كل النظريات وتلك الكلمات التي نسمعها حول خط الفقر.. وانتشال العوز.. وتلك الأحرف المنمقة الني نطلقها في الهواء.. تحت نسمات المكيفات.. ومن خلف زجاج السيارات التي لا يتم إنزالها لكي ترى المشهد بوضوح.
قال لي أحد الأصدقاء.. إن السودان بلد لا (توسط فيه).. ستجدين ذلك الغنى الفاحش.. وذلك الفقر المدقع.. لا تحملي هم أحدهم.. كلاهما سيعيش يومه.. ويتدبر حاله بيته.. الطبقة الوسطى هي التي ستهيم على وجهها.. فلا هي أصابت الرفاهية.. ولا هي قنعت بالتواجد في القاع.
منظر (طشت) ضخم به كمية كبيرة من (دمعة) جاهزة.. قيل أنها تصنع من رقاب الدجاج الذي أصبح يباع كسلعة مرغوبة فسعره في متناول اليد.. تحلق حول الطشت عدد غير قليل.. سألت.. قيل لي.. إنها أحد الحلول التي يطلق عليها (قدر ظروفك).. تشتري دمعة جاهزة بعشرة جنيهات.. يمكنك حينها أن تضيف أي نوع من الخضار.. وتصبح لديك (حلة ملاح).. دون عناء.. ولا بصل ولا لحمة ولا زيت ولا يحزنون.. قل لي أي عبقرية تلك التي تفتقت عن هذه الفكرة؟؟
المشكلة أن الحكومة تعتقد أن هذا الشعب راض.. وإلا لماذا لا يصرخ بقولة لا؟؟ لماذا لا يقول كفاية؟؟.. لكن هؤلاء المسؤولون لو كتب عليهم السير ليوم واحد في تلك المناطق لعلموا أن الجوع كافر.. وأن الإنسان السوداني يقضي يومه باحثاً عن لقمة العيش.. فصار مثل النمل.. لا يلتفت يمنة ولا يسرة.. هدفه واحد.. الحصول على لقمة طعام تقيم الأود وتسكت جوع الصغار.
قرأت ما كتبته إحدى صديقات الإسفير.. (زمان السوداني كان بيستلف.. عشان عايز يبني بيت.. يعرس لي ولده.. زواج البت جاهم فجأة.. لكن هسه السوداني بستلف عشان يتم الشهر.. عشان يشتري كهرباء.. عشان رسوم المدرسة لأنو ولدوا طردوهو منها). لو كانت هناك كلمة أخيرة.. ستكون (أتق غضب الحليم).
صباحكم خير – د ناهد قرناص
صحيفة الجريدة