وأنا فخور بكم أيها الأحبة
رُدّت إليّ روحي خلال الدقائق المعدودة التي قضيتها في تلك الليلة البهيجة في حوش تلفزيون السودان الذي تجمع أبناؤه وبناته في نفس الساحة التي كنت أرتادها يومياً جيئة وذهاباً إلى مكتبي طوال السنوات السبع الأجمل والأكثر عطاء وبذلاً في حياتي والتي قضيتها بين ظهراني ذلك الجهاز الذي ملك عليّ أقطار نفسي ونازعني والدي وأولادي وأهلي ومعارفي.
لم أكن أبالغ حين قلت وأنا أخاطب أولئك الأحبة الذين احتفوا بي في تلك الليلة الرائعة: إن قلبي ظل (يدق) كلما مررت بشارع النيل قبالة التلفزيون، فقد ظل ذلك حالي ولم يزل بعد أن احتل تلفزيون السودان في نفسي مكاناً عليّاً ولن أنسى ليلتين أو ثلاث قضيتها فيه لم أغادره إلى بيتي الذي لا يبعد أكثر من حوالي نصف ساعة بالسيارة، إذ كنت أنام سويعات قليلة داخله لأستيقظ وأواصل التجول في أرجائه وبين استديوهاته وأجهزته في انتظار موعد افتتاح المحطة الأرضية الأولى التي انتقلنا بها إلى الفضاء العريض في منتصف عقد التسعينيات.
قلت للأحبة كذلك إنها الفترة التي ما شعرتُ بالرضا وبالتصالح مع نفسي طوال حياتي مثلما شعرت خلالها فقد كانت سنوات تحدٍّ حاولت أن أجيب خلالها عن سؤال مهم : كيف أعبد ربي وأخدم وطني من خلال جهاز خطير وذي تأثير كبير، كان وقتها يتسيّد الفضاء السوداني دون منافس.
عندما جئته منقولاً من سونا التي قضيت فيها حوالي السنتين، كنتُ في خوف ووجل من ذلك البُعبُع الذي أرعبني أن كل من سبقوني إليه من المديرين بعد قيام الإنقاذ أزيحوا بعد أشهر لم تبلغ العام ولم تكن كفاءة إدارية تلك التي أبقتني إنما توفيق من رب كريم وتعاون وثيق من رجاله ونسائه الذين بلغت الثقة بيننا درجة أن يسرني كثيرون منهم بقضاياهم الخاصة جداً بما فيها خلافاتهم الزوجية إذ كان متاحاً لأصحاب الحاجة من العاملين أن يأتوني في الساعة الثانية من يوم الإثنين من كل أسبوع يبثون شكواهم ونجواهم دون خوف أو وجل.
كذلك فقد حاولنا أن نعطي التلفزيون دوراً اجتماعياً ودعوياً جديداً فقد كان يستنفر هذا الشعب الكريم لإغاثة المنكوبين بالسيول والفيضانات ولكساء العراة والفقراء ويقود حملات الدعاء والتضرع ويحرّض المؤمنين على القتال في ساحات الفداء والجهاد ويقيم الزيجات الجماعية للعاملين فيه.
ذلك وغيره مما أدى إلى تلك العلاقة التي منحت التلفزيون تلك المكانة التي لم تدانها أخرى في أي موقع آخر سابق أو لاحق عملت فيه وللأسف فقد (أخرجت) منه (مترقّياً!) بُعيْد مفاصلة القصر والمنشية التي كنتُ من رافضيها ولا أزيد!
يا لهاتيك الأيام ثم يا لهاتيك الأيام!
جئت إلى التلفزيون في تلك الليلة الحلوة بدعوة كريمة تلقيتها من المجموعة المباركة (نفخر بيك) التي تضم كل منتسبي التلفزيون تقريباً والتي ملأتني بمزيد من المشاعر الدافئة بل والساخنة تجاه ذلك الجهاز وأبنائه وبناته ..وقضيت أياماً أفكر فيما أكتب تعبيراً عن ما أحسسته خلال الوقت القصير الذي أمضيته بين أولئك الأحباب بعد أن استعصت عليّ الكلمات التي كثيراً ما تضيق عن التعبير عما تجيش به المشاعر .
كم أنا حزين أني خرجت سريعاً من تلك اللحظات الجميلة التي ردّت إليّ روحي فقد كنتُ في غاية التأثر حين أمسكت بالمايك لأحدث أولئك الأحبة الذين عرفت كثيرين منهم من الذين لا يزالون، منذ غادرتهم، قابضين على الجمر بالرغم من افتقادي بعض الوجوه التي غادرت التلفزيون ممن جمعتني بهم ذكريات لا تنسى سيما أولئك الذين ربطتنا بهم الأسفار التي ما كنا نتفارق خلالها إلا ساعات النوم تقريباً ..المرحومون باذن الله : المهندس حسن أحمد عبد الرحمن والمهندس أحمد دفع الله وآخرون مضوا ثم آخرين تقاعدوا .. أحمد مختار ، عامر خوجلي ، محمد أبشر، عبد القادر مهران، آسف لعدم الاسترسال فقد كانت هذه نماذج لأحبة توفوا ولآخرين تقاعدوا أما المرابطون ممن عشقوا هذا الجهاز ممن رأيت في ذلك اليوم البهيج فكثر .. حسن فضل المولى – جنرال النيل الأزرق الذي كان نائباً لي خلال تلك السنوات الرائعات، محمد هاشم، يس إبراهيم ، مصدق حسن، المهندس كمال نور الدائم ، الفاتح مهدي، شكر الله خلف الله، مستور آدم، إيمان دفع الله.. هالة محمد عثمان .. هذه نماذج ممن رأيت من المخضرمين.
وليعذرني من لم أعرفهم ولم أذكرهم خاصة من القادمين الجدد الذين لم أتشرف بمعرفتهم .. ممن افتقدت المذيع الفخم عمر الجزلي الذي أسأل الله أن يعيده سالماً غانماً إلى وطن بذل فيه ووثق وأجاد .. غاب عن اللقاء المدير العام للهيئة الزبير عثمان لارتباط (رسمي) خارج الجهاز فتحياتي له.
كان حظي سيئاً في تلك الليلة، إذ كنت قد ارتبطت بموعد آخر ما كان من الممكن أو الجائز لي أن أخلفه سيما وأنه حوار على الهواء في قناة تلفزيونية أخرى كان موعده سابقاً لموعد الأحبة في التلفزيون.
أهلي في (نفخر بيك) .. لقد طوّقتموني بديْن كبير وأكرمتموني بأكثر مما أستحق ولن أنسى لكم ذلك وأرجو ألا تحرموني من أية جلسة قادمة تقيمونها للتواصل فأنا منكم وأنتم مني والوطن باق والديْن ثقيل والوعد قائم وباقً ما دام في العمر بقية.
الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة