القدس لا فيصل لها الآن!
أولاً أنا لا أخفي إعجابي وتقديري لشخصية الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز طيب الله ثراه، ضربة لازب، ذلك لأن الرجل كان يمثل الشخصية العربية والإسلامية بكل جوانبها وملامحها،
من حيث النشأة والتربية والمبادئ والسلوك والمواقف والأقوال والأفعال، علاوة على ذلك كان الفيصل يجسد شخصية الحاكم المسلم الغيور على عقيدته وشعبه وبلده، التي لم تكن تعني بالنسبة له المملكة العربية السعودية فحسب، بل تشمل كل ديار الإسلام والعروبة حيثما وجد من ينطق بالشهادتين ويتحدث العربية كلغة أم أو ثانية!! وبدون شك فإن هذا التوجه كافٍ ليجعل من الفيصل شخصية متميزة بكل ما تحمل الكلمة من معنى! ونحن نتذكر الفيصل هذه الأيام والأمة الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً تتلقى طعنة نجلاء من الإدارة الأمريكية بعد اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. ولعمري يعد هذا أسوأ قرار يصدر عن قوة عظمى بعد وعد بلفور بإقامة دولة يهودية في فلسطين عام 1917م، كما يحدث هذا في وقت تشهد فيه الأمتان العربية والإسلامية حالة من الاضمحلال والضعف والهوان على الأمم لم نعلم لها مثيلاً في تاريخهما، إلا في عصر التتار، ففي ذلك الوقت جعل الخور المسلمين يعاونون التتار على إخوانهم خوفاً منهم، فكان ثمة انقسام شديد بين حكام المسلمين، حتى استهان بهم العدو وأمكن منهم! ولعل هذا هو ما يحدث الآن تماماً وكأن التاريخ يعيد نفسه، فنرى بعض حكام المسلمين والعرب يتذللون لمن يسومهم خسفاً ويتوددون له إما خوفاً منه أو طمعاً في نصرته، وما ذلك بممكن أبداً حتى نتَّبع ملتهم أو يدخل الجمل في سم الخياط. ولكن هنالك ثمة شعاعاً خافتاً في آخر هذا النفق المظلم ينبعث هذه المرة من عاصمة آخر خلافة إسلامية، إسطنبول، فقد جاء على لسان السيد رجب طيب أردوغان قوله: (إذا فقدنا القدس فلن نتمكن من حماية المدينة المنورة)! وكم كنت أود أن يلتقط زعماء الأمة الإسلامية والعربية القفاز ويعلنون موقفاً قوياً يتجاوز الشجب والاستنكار لقرار ترامب، بحيث تتخذ الدول الإسلامية المنضوية تحت لواء منظمة التعاون الإسلامي، بعد مؤتمرهم الأخير، قراراً واضحاً وشجاعاً مثلما فعل الفيصل إبان حرب 1973م بين الصهاينة والعرب، وقطع إمدادات النفط عن الغرب حتى توقفت حركة مصانعهم ووسائل نقلهم تماماً، وعلموا أن للعرب والمسلمين قيادةً وقوةً وسلاحاً يمكن استخدامه متى دعت الضرورة لذلك، ولكن للأسف الشديد فإن القدس لا فيصل لها الآن سوى أصوات بعض أفراد الشعوب العربية الذين يخرجون إلى الشوارع في بعض العواصم والمدن العربية عقب صلاة الجمعة، ولكنهم يعودون إلى منازلهم وفي حلوقهم غصة بعد أن تبح حناجرهم بالهتاف الذي لم يعد يحرك ساكناً ولا يخيف أدنى عدو لهم، سواء في فلسطين أو في غيرها، والله المستعان. وبما أن الحديث هنا عن الفيصل رحمه الله، دعوني أورد لكم بعض فقرات من حوار دار بينه وبين وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كسينجر، فقد قال له الملك فيصل متحدثاً عن النفط مقولته المشهورة: (عشنا، وعاش أجدادنا، على التمر واللبن، وسنعود لهما). وفي لقاء آخر قال كسينجر مازحاً مع الملك فيصل: (إن طائرتي تقف هامدة في المطار، بسبب نفاد الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة؟ ولكن المزحة لم تغير من ملامح الملك فيصل ولم يبتسم، بل بادر إلى الإجابة قائلاً: (وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الاقصى قبل أن أموت، فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟)، الأمة الإسلامية والعربية الآن بحاجة لقيادة من هذا الطراز، فقد تطاولت عليها الأمم وتكالب عليها الأعداء وشذاذ الآفاق، وهي تعيش حالة من الخنوع والضياع حتى لم يعد يؤلمها استهتار العدو بها، ولا يهزها النَيْل من مقدساتها، خاصة القدس أولى القبلتين ومسرى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فها هي أمريكا بكل عنجهية تعلن على رؤوس الأشهاد عزمها نقل سفارتها إلى القدس بعد الاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، ومازالت العواصم العربية تستقبل الوفود الأمريكية ويبعث بعضها وفود الصداقة والمحبة إلى دولة بني صهيون، ظناً منهم أن ذلك سوف يساعد في تواصل الشعوب ويحقق السلام في المنطقة، ولكن هيهات.. اللهم إنا نشكو إليك ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، فكن لنا ناصراً ومعيناً، ونسألك جلت قدرتك وعز شأنك أن تولي على المسلمين رجلاً من شاكلة الفيصل يكون لديه الحد الأدنى من القدرة والغيرة على ديار الإسلام ومقدساته، حتى ينهض المسلمون من هذه الكبوة التي أقعدتهم وجلعت منهم أضحوكة أمام العالم. ومن يريد أن يعرف أكثر عن الفيصل أنصحه بمطالعة كتاب الدكتور صلاح كنة (فيصل العرب والإسلام)، فهذا الكتاب يعد بحق سفراً فريداً يتناول حياة الفيصل منذ صباه الباكر ونشأته وتربيته ومبادئه ومواقفه تجاه قضايا الأمتين العربية والإسلامية، ومساهمته في معالجتها بحزم وعزم حتى استشهاده رحمه الله.
محمد التيجاني عمر – صحيفة الانتباهه