الموت مصير الفقراء منهم تليُّف الكبد.. أطفال في مواجهة المجهول
>اختصاصي كبد: لا توجد زراعة في السودان وأسباب الإصابة متعددة
>والد طفل مصاب: أتوقع وفاته في أي لحظة والتكاليف فوق طاقتي
>رئيس جمعية مرضى الكبد: كثيرون يدفعون ثمن انتشار الفايروس
لا أعرف على وجه الدقة أسباب تماسكي وتحكمي في عواطفي داخل عنبر الجهاز الهضمي (أ) بمستشفى جعفر بن عوف للأطفال، فرغم القصص الغارقة في الألم والمشاهد الجالبه للحزن، إلا أنني ظللت أنصت باهتمام لعدد من آباء الأطفال المرضى وهم يتحدثون تارة بالدموع وأخرى بالآهات والنظرات الشاردة، وفي ذات الوقت كنت أنظر إلى أجساد الصغار الهزيلة التي أنهكها المرض، وبعد خروجي من المستشفى عقب مهمتي الصحفية، فجأة انهمرت الدموع من عيني ولم أستطع منعها رغم محاولاتي المستميتة، فساعتها كنت أتخيل أن أحد أبنائي بذلك العنبر مريض، لم أجد غير أن أحمد الله وأتمنى أن يشفى الصغار الذين زرتهم.
دون سابق ميعاد
عبر أحد الأصدقاء علمت أن بمستشفى جعفر بن عوف للأطفال مصابين بتليف الكبد، ظننته يمزح لأن الاعتقاد الشائع أن هذا المرض لا يصيب إلا أولئك الذين يتعاطون الكحول من الكبار، واستبعدت إصابة الأطفال بهذا المرض الخطير وربما القاتل، بعد جدال خسرته بسبب ضعف ثقافتي الطبية قررت أن أذهب إلى حيث أشار صديقي بوجود مصابي هذا المرض، وأنا في طريق إلى وسط الخرطوم في صباح انخفضت فيه درجات الحرارة استدعت ذاكرتي الكثير من الزيارات الصحفية السابقة للمستشفيات بالعاصمة والولايات،وحاولت أن أتذكر هل صادفني مرضى من الصغار مصابين بتليف الكبد، ولكن لم أجد، فمعظم الأمراض التي وجدت أنها تصيب الأطفال لا تخرج من سوء التغذية والتهابات الجهاز التنفسي، ولأنه حدد لي العنبر الذي يوجد فيه مرضى تليف الكبد اخترت أن أتوجه أولاً صوب مكتب المدير الطبي في الطابق الرابع، ولكن لم أجده، فعدت أدراجي إلى الطابق الأول حيث مقصدي عنبر الجهاز الهضمي (أ) الذي لا يختلف في شكله العام عن العنابر بذات الطابق التي تفصل بينها عوازل من الزجاج ويبدو فيها مستوى النظافة جيداً مع ملاحظة تواجد عدد مقدر من الأطقم الطبية في كل عنبر، العنبر الذي قصدته كانت فيه عشرة أسرة حديثة، في كل سرير يوجد طفل وبجانبه أمه أو والده، سألت شاباً كان يحتضن ابنه في مشهد مؤثر :”هل هذا عنبر الأطفال المصابين بتليف الكبد”، فأجابني بنعم، لم أشأ طرح الأسئلة عليه فقد كان ساعتها يحاول تهدئة ابنه الذي كان يبكي من فرط ما يشعر به من ألم.
شيخ السجادة والصبر
لم يكن في العنبر وقتها سوى ثلاثة رجال، أحدهم خرج، والثاني كان يحتضن صغيره، فاخترت أن أتجه إلى الثالث، يبدو في نهاية العقد الرابع من عمره، يشع من وجهه وقار، اقتربت منه وألقيت عليه التحية، فرد بأحسن منها، عرفته بهويتي الصحفية، وقلت له إن غرضي الأساسي إلقاء الضوء على قضية هؤلاء الصغار، لم يرفض ولم يتحفظ وأرجع موافقته إلى إدراكه أهمية أن يعرف المجتمع والدولة واقع هذه الشريحة التي يصفها بالمظلومة، ويقول محدثي علم الهدى شيخ سجادة الأشراف الإبيضاب بالدندر ووالد الطفل المريض عبد القادر الذي يبلغ من العمر سبع سنوات إن العنبر يضم عدداً من الأطفال المصابين بتليف الكبد، ويشير إلى أنه ومن خلال ثلاثة أشهر ظل ملازماً ابنه بالعنبر طريحاً على فراش المرض، فقد وقف على الكثير من حالات إصابة أطفال بتليف الكبد، وقال إن بعضهم فارق الحياة وآخرون غادروا السودان بحثاً عن علاج، فيما يرى أن الفئة الثالثة هي الأكثر تضرراً، وذلك لأن عدد من آباء الأطفال غادروا العنبر والمستشفى ولم يواصلوا رحلة العلاج بداعي ظروفهم المادية، مبيناً ارتفاع تكلفة أدوية هذا المرض.
إرهاق مادي ونفسي
ويمضي الشيخ علم الهدى موضحاً أن الجرعة الواحدة من أحد أنواع الأدوية يبلغ سعرها 650 جنيهاً وهي يومية أحياناً بحسب حالة المريض، بالإضافة إلى نوع آخر من العلاج بسعر 170 جنيهاً وثالث يبلغ سعره 210 جنيهات، وقال إن هذه الأدوية يحتاجها الطفل المصاب بالتليف يومياً، بالإضافة إلى إجراء تحاليل أسبوعية ونصف شهرية بتكلفة تبلغ 1300 جنيه، وعن حالة ابنه البالغ سبع سنوات، يشير الشيخ علم الهدى إلى أنه ومنذ أن كان عمره ثلاثة سنوات ظل مريضاً ولم يعرفوا مرضه، وبعد رحلة من المعاناة استمرت أربعة أعوام من البحث عن شفاء صغيرهم أخبرتهم اختصاصي الكبد الدكتورة ندى زكريا بإصابة ابنهم بتليف عقب إخضاعه لعملية منظار.
توجيه ورحلة
ويقول إنها وجهته إلى اختصاصي الكبد الدكتور مالك الحسن مكين الذي وبعد تشخيص حالة الطفل عبد القادر رأى أن علاجه يتوقف على إجراء زراعة كبد بدولة الهند لدى الدكتور محمد ريلا بعد إرسال التقرير إليه، ويكشف علم الهدى عن أن تكلفة العملية تبلغ 37 ألف دولار ما يعادل 962 ألف جنيه سوداني، بعدها صمت الشيخ علم الهدي وتغيرت ملامح وجهه التي كساها الحزن وحاول إيقاف دموعه من التسلل، تركته حتى هدأت أنفاسه فعاد للحديث، وأضاف: هذا المبلغ فوق استطاعتي بكل تأكيد، فأنا مزارع ودخلي في أعوام لا يمكن أن إلى يصل ربع هذا المبلغ، ولكن لم أستسلم لأن ثقتي في الله كبيرة، طرقت باب إدارة العلاج الموحد بديوان الزكاة فتقرر دعمي بمبلغ 48 ألف جنيه، إلا أنهم اشترطوا إبراز إشعار تحويل اثنين ألف دولار للمستشفى في الهند بالإضافة إلى شهادة من لجنة الزكاة القاعدية بحي السلام الذي أقطنه بالدندر تثبت حاجتي للدعم.
محاولات فاشلة
ويمضي الشيخ علم الهدى في حديثه ويضيف: حاولت توفير مبلغ الاثنين الف دولار، ولكن عملية الشراء واجهتها صعوبات من واقع عدم بيع العملة الحرة بالبنوك والصرافات بالإضافة إلى ذلك لا يمكننا التوجه ناحية السوق الأسود خوفاً من القانون الجديد، قلت له، ولكن حتى إن تسلمت دعم الزكاة وحولت مبلغ الاثنين ألف دولار للمستشفى فمن أين لك بمتبقي المبلغ، وهو 33 ألف دولار، صمت برهة ثم قال “مخليها على الله “، يواصل حديثه معي بحسرة ويقول إنه يموت في اليوم أكثر من مرة وتتقطع نياط قلبه حزناً وهو يرى ابنه يعاني الألم والمرض، ولا يستطيع أن يساعده، وشيخ علم الهدى لم يكن يحمل هم صغيره وحسب بل كل الأطفال المرضى في العنبر المصابين بتليف الكبد، وقال إن أسرهم لا تملك الإمكانيات المادية حتى لشراء الأدوية ناهيك عن علاجهم في الهند، ورأى أن الدولة يفترض أن تتحمل تكلفة علاجهم خاصة وأن عمليات زراعة الكبد باهظة التكاليف ولا يمكن إجراؤها في السودان، ورغم الألم النفسي الذي يعاني منه علم الهدى إلا أنه يشيد بالتعامل الإنساني للأطباء والكوادر المساعدة بالعنبر وعلى رأسهم الاختصاصي مالك الحسن والدكتورة منى والأطباء أحمد وقمر الدولة وعمر والكوادر المساعدة، ويقول إنهم يتعاملون معهم باحترام وإنسانية ويهتمون بعلاج أطفالهم بإخلاص وتفانٍ.
أسباب متنوعة
لماذا ينتشر تليف الكبد وسط الأطفال، طرحت هذا الاستفسار على اختصاصي الكبد الدكتور مالك الحسن مكين الذي أشار إلى أن اسباب مرض تليف الكبد وسط الأطفال يعود معظمها إلى القابلية الوراثية، مبيناً في حديث لـ(الصيحة) أن هذا المرض لا يصيب كل الأطفال، وأن التليف لدى البعض ينتج عن عيب خلقي وهؤلاء تصاحبهم مشاكل صحية منذ سن مبكرة، موضحاً أن البعض يصيبهم لحدوث أعراض ثانوية تنتج من أمراض الكبد مثل الألتهاب الفيروسي (ب)، أو نتيجة لضعف المناعة الذاتية للكبد، وقال إن مجموعة من الأمراض التي تصيب الكبد قد تؤدي إلى تليفه في نهاية الأمر، مؤكداً أن كثيرين يعتقدون أن هذا المرض لا يصيب الأطفال، ولكن هذا الاعتقاد غير صحيح، وقال إن العلاج الذي يتم تقديمه يتوقف على وضع الحالة المريضة للطفل ومدى حضوره مبكراً، وقال إن من يأتي في الفترة الأولى من الإصابة بأمراض الكبد يكون وضعهم أفضل وتتم معالجة الأسباب، وأن نوعاً من المرضى يأتون في مرحلة ظهور المضاعفات وهؤلاء تتم معالجتهن عن طريق التغذية المناسبة وتعويض النقص في بعض الفتمينات، وقال إن أبرز المضاعفات تتمثل في ارتفاع ضغط الوريد البابي وهذا يكون مصحوباً بدوالي في المريب واستفراغ دموي، ويتم علاجهم عبر المنظار ويتم منحهم علاجاً لتخفيف ضغط الوريد البابي، وهذا يقلل من احتمال الاستفراغ الدموي، وعن زراعة الكبد قال إن خطوات جيدة تم قطعها في هذا المشروع، ولكن لم يتحدد موعد بداية عمليات زراعة الكبد، ويقول إن وصول الكبد مرحلة التليف فإن علاجها صعب وتصاب بالخلل والقصور الوظيفي فإن الحل هو الزراعة خارج السودان، مبيناً أن عنبر الجهاز الهضمي “أ” بمسشتفى جعفر أبنعوف يسع عشرة أطفال وفي الغالب أن خمسة منهم أو ستة مصابون بأمراض الكبد.
جهد مجتمعي
ولإكمال الصورة توجهت ناحية الجمعية السودانية لمرضى وزارعي الكبد التي تم تأسيسها في العام 2012 وباشرت مهامها في يناير من العام الماضي، يقول نائب رئيس الجمعية المهندس نادر عباس خضر عباس وهو من الذين خضعوا لزراعة كبد بعد أن تبرعت له زوجته، إن إنشاء الجمعية يعود عقب تنامي عمليات زراعة الكبد خلال الثلاثة أعوام الأخيرة، بالإضافة إلى تفشي الأمراض المتعلقة بالكبد، مبيناً في حديث لـ(الصيحة) أن الجمعية تضم في عضويتها ما يربو على الخمسمائة عضو من أطباء وزارعي كبد وأصدقاء مرضى، موضحاً أن العضوية مقسمة إلى ثلاثة أنواع منها الأصيلة والفخرية والمستفيدون، وهؤلاء أكبر شريحة في الجمعية وهم المصابون بأمراض الكبد، كاشفاً أن الذين خضعوا لإجراء عمليات زراعة كبد في الفترة الأخيرة يبلغ عددهم 50 مريضاً.
ناقوس خطر
ويمضي المهندس نادر عباس في حديثه كاشفاً أن مرض التهاب الكبد الفيروسي (ب) ينتشر في البلاد بنسب مرتفعة، وأن هذا جعل السودان في المرتبة الأولى من حيث الإصابة بهذا المرض في أفريقيا، وقال إن أعداد المصابين بتليف جراء هذا المرض في ارتفاع متواصل، وعن أدوار الجمعية، قال إنها تركز بشكل كبير على التوعية بالمرض وأسباب التليف التي قال إنها ومن جملة خمسين خضعوا لزراعة كبد فإن 60% كان فايروس (ب) هو سبب إصابتهم بالتليف، وقال إن واحداً فقط هو الذي تسببت الكحول في إصابته بالتليف، فيما تعرض الآخرون للإصابة بهذا المرض نتيجة لتراكم الدهون، لذا قال نادر فإنهم يعملون على نشر التوعية والحث على أهمية الرياضة.
تكلفة وأمل
وعن تكلفة زراعة الكبد، قال المهندس نادر عباس إنها تتراوح بين الخمسين إلى ستون ألف دولار، وإن الذين خضعوا لعمليات يمثلون 50% من جملة المصابين بتليف الكبد، وقال إن الزراعة في أوربا باهظة التكاليف، لذا فإن المرضى يتوجهون ناحية دول تايلاند، الهند، والصين، ورغم المعاناة التي يتكبدها المرضى المصابون بالتليف إلا أن المهندس نادر بدا متفائلاً بنهاية مشاكلهم، كاشفاً عن استمرار عملية تشييد مركز مختص بزراعة الكبد تبرع به رجل البر والإحسان الشيخ محمد صالح صاحب شركة كوفتي، وتوقع أن يفتتح أبوابه للمرضى خلال عام، وقال إن الدولة تعهدت بتوفير الأجهزة والمعدات والكوادر الصحية، موضحاً أن الجمعية تبذل مجهودات كبيرة لإنشاء مركز ثانٍ مختص برعاية المرضى قبل عمليات الزراعة.
تبرع بالكبد
سألنا نادر عن كيفية زراعة الكبد بحكم أنه خضع لعملية عقب تعرضه لتليف، فإشار إلى أن العملية في الدول الآسيوية تعتمد على التبرع، مبيناً عن تبرع زوجته بجزء من كبدها له، وأضاف: يحدد الأطباء نسبة معينة من الكبد التي يحتاجها المصاب بالتليف ويأخذونها من كبد المتبرع ويتم إجراء العملية، ولا يصاب المتبرع بمضاعفات وذلك لأن كبده يعود إلى حالته الطبيعية خلال فترة من 21 يوماً الى شهرين، ومعلوم أن الكبد هو العضو الوحيد في الجسم الذي ينمو.
ويختم المهندس نادر عباس حديثه بمناشدة الجميع الاهتمام بالرياضة، وكذلك العمل على دعم ومساعدة مرضى الكبد.
وداعاً أحمد عماد
إذن فإن الدهون وتفشي فايروس (ب) والدواعي الوراثية وغيرها من أسباب تفشي أمراض الكبد وتليفها بالبلاد، القضية كبيرة وخطيرة وتحتاج لوقفة من الجميع .. وقبل أن أدفع بهذه المادة الصحفية إلى هيئة التحرير كنت على موعد آخر مع الحزن والدموع فقد تمت إفادتي أن الطفل أحمد عماد الذي رأيته في زيارتي للعنبر وكان سريره بالقرب من زميله في المرض الطفل عبد القادر علم الهدى، قد غادر الدنيا ليس بسبب تليف كبده وحسب بل لعجزنا عن مساعدة أسرته حتى تتمكن من إجراء عملية جراحية له بالهند، رحل الصغير عماد تاركاً مسؤولية جسيمة على عاتق الجميع بأن ينقذوا حياة من كانوا معه بالعنبر وأولئك الذين يعانون في صمت.
الصيحة.