الصادق الرزيقي

أهم من السياسي

لو لم يفعل المؤتمر الوطني شيئاً غير مؤتمره الفكري السنوي الذي يرتكز هذه الدورة على النهضة والتنمية والتفكير العميق حولها لكفاه. فمن الذي يقول إن الأحزاب في العالم لم تزل تهتم بالأفكار والنشاط الذهني الخلاق وتوليد الفكرة والاهتداء بها والاقتداء بموجباتها.

فالأحزاب في العالم كله تنكبت طريق الأيدولوجيا وباتت تعتمد في برامجها وشعاراتها القضايا الآنية المُلحة، وتطرح شعارات فضفاضة لا تخاطب إلا حاجة المجتمعات وهمومها الحياتية، وتحاذر -أي الأحزاب والتكوينات السياسية- من مخاطبة العقول واستكناه موطن القناعات العميق. ففي الفكر السياسي والاجتماعي، يبدو أن الراهن المُعاش، ليس في السودان وحده بات مرتبطاً بالولاءات الدنيا أو الأدنى دون الولاءات العليا التي تقوم على الأفكار والمعتقدات المرتكزة على أساس فلسفي واجتهاد ذهني يحفر في لُب قضية الإنسان ووجوده وغاياته الكبرى .
> اذا كان المؤتمر الوطني وهو سليل فكر الحركة الإسلامية وفطيمها، فإن مشروعه السياسي في الأساس فكري قبل أن يكون سياسياً محضاً، فالبلاغ والدعوة والرسالة، هي القواعد التي يقوم عليها خطابه ودعوته وما يقوله للناس متوازياً مع عمله ونشاطه من أجل قضايا المجتمع وحل مشكلات الدولة التي هي بدورها تحتاج الى إعمال الفكر وقدْح الذهن وآراء العلماء والخبراء والمفكرين ..
> لم ولن يسوس المؤتمر الوطني الناس إلا بأفكاره، ولَم تخاطب الجماهير في بدايات الإنقاذ وما أصعبها من أيَّام ، بغير الخطاب السياسي البلاغي الدعوي الذي هو نتاج فكرة، ومن مخاض تجربة غائرة في تراب مشروع الصحوة الإسلامية وبعثها الحضاري الذي أرادته للأمة ، غير أن المؤتمر الوطني بالأمس: في فاتحة واستهلال مؤتمره الفكري يطرح جديداً، هذه المرة لا يقدم تجريداً بعيداً عن الواقع، يحلق في أفق بعيد ، إنما يطرح فكرة عميقة وبسيطة في ذات الوقت، عميقة في منهجها وأدواتها وغايتها وبسيطة في قربها من هم المجتمع ومشكلاته التي تعيق حاضره تُغبِّش مستقبله.
> فالتنمية بمفهوماتها الشاملة في مجتمعاتنا، ليست قضية يقوم بها التنفيذيون والتكنوقراطيون ولا تستطيع الأنظمة والحكومات رسم معالمها وخطوطها وتحديد أولوياتها والملحات منها دون أن يتصدي المفكرون والخبراء وأهل الدراية والنظر للتحديات التي تواجهها، فهي قضية ذات أبعاد وتعقيدات متعددة الاتجاهات والجوانب والمعضلات، وحاجة مجتمعاتنا في ظل الظروف السياسية الراهنة والعلاقات الدولية المتشابكة ومشكلات الفقر والتخلف وغياب التقانة الحديثة والحروب والتوترات الأمنية والاضطرابات في أنظمة الحكم، يصبح من العسير إيجاد تصور واضح دون أن تجتهد العقول وتستفرغ الوسع في الاجتهاد حتى نخرج الى فضاء أوسع وتتحف تطلعات الشعوب .
> من الواجب أن نتذكر أن الاهتمام بقضايا الفكر والأيدولوجيا، تقتضي إفساح مجالات أوسع للتعامل معها والإيمان بها، ولابد من ربط الفكر بقضايا المجتمعات اليومية لأن المصير من الأحزاب الأيدولوجية العظيمة في تاريخ الشعوب، تلاشت خطوط الدخان وتبددت في الهواء عندما سقطت الأنظمة الحكومية. فالحزب الشيوعي السوفيتي هو من أكبر الأحزاب في العالم لم يعد له وجود، وكذلك الأحزاب في أوروبا الشرقية عندما انهار المعسكر الشرقي، وكذلك حزب البعث في العراق وحركة اللجان الثورية في ليبيا وغيرها من البلدان التي كانت تعيش حالة أيدولوجية عارمة عندما كان السياسي أكبر من الفكري ..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة