يا ساحة من جلال
(أ)
لو لم تكن الدورة المدرسية القومية في كل نسخها التي وصلت (27) غير هذه الوجوه الصافية والقلوب النقية والحب الكبير للسودان، لكفى. فوجدان أبناء السودان وبناته، لا يمكن أن يمتلئ بهذا القدر لولا الفيض النوري البهي الساطع في أرجاء البلاد في طولها وعرضها،
الزغب الصغار من أبنائنا وبناتنا طلاب المرحلة الثانوية، يرسمون لوحة زاهية لبلادهم ويكتبون تاريخنا السياسي والاجتماعي والثقافي في كل مرة في مدينة من مدننا المُثْقلة الأحداق من دمع سخين .
انتهت الدورة المدرسية في كسلا، وما أدراك ما كسلا وهي تحتضن الدورة المدرسية القومية السابعة والعشرين، سكبت في أرواح البعثات القادمة من الولايات، كل ما قيل ويقال عن هذه المدينة في دوواين الشعراء وخواطر الكُتَّاب، وما نُقِش على وجه القمر وهمست به النجيمات الساهمة في سماء صافية، كانت كسلا خلال أيام الدورة المدرسية ختامها الذي شهده رئيس الجمهورية، مدينة تنافس نفسها، تخرج من الظلال، يتوالد بريق الجمال والجلال فيها من بريق تاريخها المُشع العامر بالجمال والجلال، فكل شيء فيها كان مُشرِّفاً في البهاء، الشمس التي تخرج من خلف توتيل تكتسي منه رونقها وسطوعها، والشمس التي تغرب خلف وريف الشجر في غربها وتختبئ هناك في المدى الفسيح، وبين هاتيك الربى والتلال، تشرئب المدينة إلى فضائها العريض، ولكم قابل الناس في أيام الدورة المدرسية لمعارض في الهواء الطلق، وفوتوغرافيا فيها صوراً لرموز كسلا عبر السنون والحقب والعصور، فلكم كانت المدينة عظيمة وشامخة وحانية .
(ب)
لا نرى لماذا بدا السيد رئيس الجمهورية منشرحاً مبتهجاً في كسلا وهو يختتم الدورة المدرسية، وقد قال إنه وجد أهلها في مدينتهم يوم استلام الوالي آدم جماع علم الدورة المدرسية في ختامها الذي كان في النيل الأبيض، وجدهم عند حسن الظن بهم، كان البعض يعتقد أن ولاية كسلا لن تستطيع أن تقدم ما قدمته الأبيض وربك في تنظيم آخر دورتين مدرستين، ولكن أهل كسلا فاجأوا الناس، أولاً بكرمٍ لا يبارى ولا يجارى، تسابقوا زرافات ووحدنا نحو البعثات الولائية، أفردوا لهم المقام في أفئدتهم وكل قلب كان موطئاً لهم ممشى عريض، وكل بؤبؤ عين كان يحمل طلاب وطالبات السودان، تحولت المدارس وأماكن نزل واستضافة الطلاب المشاركين الى عرائش من نور وفضائل، نساء كل حي تجمعن وأعددن أنفسهن ونذرن نذراً لإطعام أبنائهن بالموائد، وكانت رائحة الزلابية والشاي المقنن تفوح في سماء المدينة عقب صلاة الفجر كل يوم، ولم تنقطع عن أي طريق وزقاق وممر، مشاهد الصواني والأطباق المحمولة من كل بيت الى مقار سكن البعثات، الفقراء قبل الميسورين، وتحولت الأمسيات وأوقات العصر والأصيل الى لحظات تعارف وتآلف وتقارب بين أبناء البلد الواحد ، لم يحس كل طالب او طالبة أتى من الجنينة او كرمة البلد او من الدمازين او المجلد او الفاشر او بارا والأبيض او نيالا وعد الفرسان وقريضة أو من مناطق الجزيرة والنيل الأبيض والقضارف والبحر الأحمر في سنكات او محمد قول او من الدندر السوكي وقلع النحل والفولة وسنار وأبوقوتة والرصيرص والكاملين والمعيلق ونهر النيل من ابوحمد او حجر العسل، لم يشعر كل هؤلاء المشاركين أنهم غرباء كانوا أقرب الى فؤاد كسلا ولم يكن فؤادها خاوياً.
(ت)
خلال أيام الدورة المدرسية ولأكثر من أسبوعين تقريباً، عاشت المدينة عرسها، كأنها عروس تزيَّنت بخضابها وحُليها وخرجت بملاحة وجهها تنثر البِشر والحُسن والجمال في كل قلب، وتنفث الوُد في كل روح ، طاشت ضفائرها العطيرة نشرتها كأغصان رطبة تتمايل، وتركت ذكي طيبها يفوح زاحماً الأرجاء كعود صندل يضوع، لم تترك كسلا قيمة وفضيلة من فضائل الجمال ورفعة الروح وسمو الخلق، إلا وتدثرت بها، وكان الجميع مثالاً وقدوة يندر أن تجدها في عالم اليوم
لقد تبارى زعماء القبائل قُبيل انطلاق الدورة المدرسية بأيام الى ملء الزكائب والزرائب بالخراف والمواشي والإبل، وتبارت النساء في إخراج الديباج والحُلي والحُلل، وتبرعن بها من أجل إنجاح الحدث الكبير، وقدم أصحاب العمل والتجار والغرف التجارية أنموذجاً للوطنية الحقة والقلب الكبير المفطور على الإحسان والتسابق الى الخيرات، وانتظم الحرفيون من أهل كسلا في مجموعات قدمت الكثير من مستلزمات المناسبة في كل جوانبها، وكانت مجموعات المبدعين في كل مجالات الإبداع هم الأعمدة التي شيدت عليها الدورة المدرسية بنيانها ورخامها وضرامها .
كل شيء كان يتنفس بعبق فريد، الناس والطرقات والباعة والمحلات والأسواق والمتاجر المطاعم والساحات ، أوكسجين الحياة كان هو تلك السمة والروح التي سرت في عروق المدينة وجرت في أجساد أهلها وتسلَّلت الى مكامن الحس والحياة عندهم ، لأول مرة نرى مدينة تنطق بلسان واحد ولغة واحدة وإحساس واحد، وكذا الولاية . كنا في السابق نتشاءم مع شاعر كسلا الفحل محمد عثمان كجراي وهو يسأم ويتلوى من الغيظ حين يقول :
أتوه أظل أبحث عنك
بين مواكب الدهماء
خلف مرافئ الظلماء
فوق مجرة الأسماء
لا ألقى سوى صمت يغربل لي عذاباتي
رأيت الليل مسعوراً يمزق لي شعاراتي
يقود مظلة الإعصار يسخر من معاناتي
وأما لذت بالأحياء يلقيني على أبواب أمواتِ
رفعت على ركام الغيب
فوق مدارج المجهول راياتي
وهأنذا أنوء بصخرتي الصماء
يا سيزيف أهدر في دروب الليل طاقاتي
فيا وطن الضياع المر يا نصلاً
يمزقني ويكثر من جراحاتي
متى ينسل موج الضوء يغسل رمل واحاتي
(ث)
أما وقد انسال موج الضوء في كسلا، ما عادت تلك الكلمات اليائسة تخرج من حنجرتها كما كانت قبل عقود وسنوات، تيبست فوق حبالها الصوتية تلك الآهات، وُلدت المدينة من جديد في ذات مرقدها الخضيل والجميل، تبدلت الدموع الى شموع، وإضاءت وججها ملايين الأمنيات والأغنيات.
لقد غنى فيها فتية السودان في دورتهم المدرسية كما شاءوا وكانت تصغي وتطرب لهم أكثر، لقد ملأوا فضاءها العريض الودود بأشعارهم وكلماتهم ومسرحياتهم وأهازيجهم، وجعلوا الدم يجري في عروق المدينة وهم يهزونها هزاً بنشاطاتهم الرياضية وتنافساتهم في كرة القدم والسلة والطائرة واليد وبقية المناشط الرياضية الأخرى، كانت تسير على هدى أصواتهم وقرآن الفجر المنبعث من مقار البعثات والمساجد ..
عاشت المدينة أياماً ليست كسابق أيامها، كما قدمت هي، وقفت مشدوهة لهؤلاء الفتية الصغار وهم يعمِّرون المساجد ويصينونها في نشاط مصاحب ومبادرات خلاقة.
فأبناء بعثة ولاية شمال كردفان صانوا مسجد بجوار المدرسة التي كانوا يقيمون فيها، ودفعوا مبالغ مالية للإفراج عن مساجين في سجن الولاية، وأبناء ولاية شمال دارفور أقاموا معارض وأطعمة ونشاطاً خيرياً لصالح جهات فقيرة وبعثات أخرى تبرعت الطلاب فيها بجمع الدعم لأطفال مرض السرطان، كل هذه المعاني والروح الجديدة، التي عرفت في كسلا ، لولاها لما كانت .. وتبدلت كلمات كجراي اليائسة الى كلمات أخرى تقول :
كثير الوجد يربكه الجمال
يا مترنماً في الخيال
أي ريح أتت بك
وأي موكب تختار
هذي كرنفالات فرح تسري في دمي
لم تترك شيئاً يُقال
سوى أنني مصلوب أمامك
أتهجأ حيناً
أتلعثم حيناً
وحيناً يأخذني الجلال
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة