مشروع الجزيرة.. تو الى الأزمات
لم يعد مشروع الجزيرة كما كان في الحقب السابقة، فالمشروع الذي تأسس في العام 1911، يعد أكبر مزرعة مروية في العالم تحت إدارة واحدة، إذ تبلغ مساحته مليونين ومائتي ألف فدان، وتقدر أصوله بما يزيد على ستين مليار دولار، ويعمل به 135 ألف مزارع، وظل لعقود يحمل الاقتصاد السوداني على كفته ويساهم بأكثر من 65% من إنتاج البلاد من القطن، ونسبة كبيرة من إنتاج القمح والذرة والمحاصيل البستانية، وحتى وقت قريب كان يشكل وحده 45% من الصادرات في السودان، الا ان الحال تغير و أصبح حجم المستغل من أراضيه لا يتجاوز 10%، وبحسب تقديرات متفائلة يحتاج إلى مليار دولار لتحسين بنيته التحتية والعودة إلى مساره القديم. على مر السنين ظل مزارعو المشروع يشتكون من تأخر وصول المياه إلى مزارعهم بسبب غمر الطمي للقنوات، ولغياب إرادة وسياسة محصولية واضحة في المشروع، خاصة بعد تقليل المساحات المزروعة قطناً والتركيز على زراعة القمح، خاصة وأن المشروع يتيح فرصاً واسعة للاستثمار في الصناعات الزراعية كصناعة الغزل والنسيج ومطاحن الغلال وصناعة الزيوت وتصنيع الأغذية والجلود.
قبل أيام قدمت إدارة المشروع تقريراً حول ما يجري بالمشروع للجنة الزراعية بالمجلس الوطني، حيث أقرت فيه بأن الأصول المتبقية للمشروع لا تكفي لتمويل الموسم الزراعي، ما دعاها لطلب رئاسة الجمهورية للتدخل، ليس لوقف نزيف بيع الأصول فقط، وإنما لتمكين العروة الشتوية من تجاوز العقبات التي تحول دون نجاحها، خاصة فيما يلي (التقاوى والسماد وتوفير المياه والخيش، فضلاً عن التمويل). ما الذي يجري؟
ما الذي يجري للمشروع، والعروة الشتوية قد دخلت شهرها الثاني؟.. سؤال تبحث (آخر لحظة) عن إجابة له من خلال هذا التحقيق:
اليوم، يجأر المزارعون بالشكوى من تأخير وصول المياه إلى مزارعهم بسبب فقر صيانة القنوات، ومن ارتفاع تكاليف التحضير لزراعة القمح بعد أن فرضته عليهم إدارة المشروع، ومن ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية من أسمدة ومبيدات، بجانب تخوفهم من عمليات الري.
عدد من المزارعين تحدثت إليهم (آخر لحظة)، أكدوا إحجامهم عن زراعة محصول القمح في الموسم الشتوي، وأرجعوا ذلك لارتفاع تكاليف التحضير والمدخلات الزراعية، وأشاروا إلى الاستعاضة عنه بالبقوليات خاصة الكبكبيه، ولفتوا إلى أن العطش في محاصيل الموسم الصيفي أدى إلى تأخير زراعة محاصيل الموسم الشتوي.
وقال المزارع محمد الحسن (قسم ري المسلمية)، إنه سيزرع على نفقته الخاصة في ظل الظروف الضاغطة التي يمر بها كمزارع، وأوضح أن الأسعار التركيزية خاصة لمحصول القمح، غير مجزية في ظل ارتفاع التكاليف المتصاعدة، وتوقع أن يحجم عدد كبير من المزارعين عن زراعة محصول القمح، ويلجأوا لزراعة البقوليات مثل زراعة الكبكبيه، وأضاف (جوال الكبكبيه يبلغ 1850 جنيهاً ونوع العتمور منه يبلغ 2000 جنيه، والعدسية 1600 جنيه)، وتوقع زيادة أسعارها، وتابع (لا تحتاج البقوليات لعمليات زراعية مثل محصول القمح)، وأشار إلى أن تكاليف الحصاد للفدان في الموسم الشتوي السابق كانت 300 جنيه، وذكر أنه من المتوقع أن تصل إلى 500 جنيه في الموسم الحالي، ولفت المزارع محمد الحسن إلى أن الترحيل من الموقع إلى البنك الزراعي كان في الموسم السابق (37) جنيهاً، ورجح أن يصل إلى 50 جنيهاً بعد ارتفاع أسعار الوقود، ولفت إلى ارتفاع تكاليف كافة العمليات الزراعية من تحضير وتقاوى وأسمدة وخلافه، ونوه لعدم وجود جسم يدافع عن المزارعين داخل مجلس إدارة مشروع الجزيرة بعد حل الاتحاد السابق وعدم اكتمال تكوينات مهن الإنتاج الزراعي والحيواني.
أزمة المياه:
وبخصوص العطش بمشروع الجزيرة يشيرعضو اللجنة الزراعية بالبرلمان، محمود عبدالجبار إلى اتفاقهم مع وكيل وزارة الموارد المائية والري والكهرباء، على تكوين لجنة مشتركة للوقوف على الأضرار التي لحقت بالمشروع جراء العطش، موضحاً إنهم تجاوزوا مرحلة إعفاء المزارعين المتضررين من رسوم الري إلى تحميل الري مهمة تعويض هؤلاء المزارعين، وتعهد الوكيل بتعويض المزارعين حال ثبوت تضررهم بسبب العطش .
لكن عضو اللجنة الزراعية بالبرلمان، محمود عبدالجبار يقول (المؤسف أن وزارة الري هي الخصم والحكم والمزارعون يرفضون فصل الري من إدارات المشاريع القومية وتحويله لوزارة الكهرباء)، ويضيف (لا أريد تسمية جهات لكن يوجد مخطط لإبعاد المزارع عن حواشته، عايزين يعطوها لجهة لا نعلمها، لكن المخطط موجود، والأمر بدأ منذ وقت وحتى الآن كل السياسات تهدف لقطع العلاقة بين المزارع وحواشته).
تقارير لا تعبر عن الواقع
لكل موسم زراعي تحدياته ومشاكله التي تواجهه، مما يؤثر سلباً على الإنتاج، وقبل فترة كشف العضو البرلماني عبدالجبار عن وجود فجوة كبيرة في جوالات حصاد العروة الشتوية، مشيراً إلى وجود نقص حاد في الكمية المطلوبة، وأشار عبدالجبار إلى أن الحاجة الحقيقية للموسم الزراعي الحالي 300 ألف (بالة)، والمتوفر منها ( 185) ألف (بالة)، ونوه عبدالجبار خلال حديثه لـ(آخر لحظة)، إلى أن أزمة الخيش تمثل كارثة تهدد العروة الشتوية بالفشل، خصوصاً وأن الموسم قد حان أوانه والتحضيرات دون المستوى المطلوب ناهيك عن أزمة الخيش نفسها، ومضى بالقول: (كلفنا بزيارة لمشروع الجزيرة من قبل المجلس، وجلسنا مع وزير الزراعة ومحافظ المشروع، ووكيل الري ورؤساء القطاع التخصصي في مشاريع الري، واكتشفنا أن العمل والتقارير عبارة عن أمور فوقية، وكل التقارير التي قدمت كانت تقارير لا تعبر عن الواقع الزراعي).
أزمة التمويل
تظل أزمة التمويل عائقاً رئيساً يتجدد كل عام، و المزارعون يهربون من الزراعة بدواعي ضعف التمويل لدرجة تصل إلى أن يكون المزارع مداناً، نشرت إحدى الصحف قبل أيام تقرير إدارة مشروع الجزيرة المقدم للمجلس الوطني والمعنون للجنة الزراعية بالمجلس الوطني، يبين مستوى الأداء ومدى الاستعداد للعروة الشتوية ،حيث جاء في التقرير أنه وبسبب عدم اعتماد السياسات والنظم التي تحكم وتمكن تنظيمات المنتجين من الحصول على التمويل وضماناته، فقد قرر مجلس الإدارة استثناء محصول القمح كمحصول غذائي وإستراتيجي في إطار سياسة الدولة نحو تقليل فاتورة الوارد والسعي نحو الاكتفاء الذاتي، لتقوم الإدارة بضمان تمويل المزارعين لهذا الموسم فقط عبر الآلية المتبعة سابقاً، وذلك برهن أصول مشروع الجزيرة..!! وأن يتم ضمان التمويل عبر وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، وأقرت إدارة المشروع بأن أصول مشروع الجزيرة وبحالتها الراهنة، لا تفي بالتمويل المطلوب!.. ويدخل إدارة المشروع في دوامة تراكم المديونيات على المشروع.
عجز كبير
ووفقاً للمجريات، فإن إدارة مشروع الجزيرة تقر بعجز كبير قد يهدد العروة الشتوية التي آن أوانها، والمستهدفة لزراعة (400,000) فدان، إذ لا زالت التحضيرات تعاني من عدد من المشكلات، ولا زالت التقاوى والأسمدة والمبيدات تواجه عجزاً كبيراً.
تردٍ كبير
العديد من المزارعين يرون أن عوامل التردي والانهيار أصبحت السمة البارزة لمشروع الجزيرة وامتداد المناقل، ويعيش المزارعون حالة إحباط في ظل انعدام مقومات الزراعة المتعلقة بالبذور المحسنة ومياه الري، وانسداد القنوات الرئيسية بسبب الطمي والحشائش، وانهيار معظم قنوات الري والكباري، إلى جانب القانون الجديد الذي تسعى الحكومة المركزية لإجازته ليضاعف من معاناة المزارعين وينهي مشروعهم التاريخي.
الطيّب حسين المزراع بوحدة بركات، يذهب بالقول في حديثه لـ(آخر لحظة)، بأن السلطات استهدفت المزارعين بإهدار مشروعهم، مشيراً إلى الانهيار التام للبنية التحتية المتعلقة بالمنشآت وقنوات الري وممتلكات وأصول المشروع من السكك الحديد ومصانع ومحالج النسيج ومطاحن قوز (كبرو)، موضحاً أن هذه الأسباب أدت إلى عزوف معظم المزارعين عن الزراعة في مواسم كثيرة، وأن قنوات الري الموجودة الآن ممتلئة بالطمي والحشائش مما أدى إلى تكرار العطش سنوياً، ويقول إن المصارف والقنوات التي شيدّها المستعمر البريطاني قبل أكثر من ستين عاماً لتصريف المياه الزائدة والمتدفقة عشوائياً انتهت بالكامل وقد تسبب ذلك في إغراق الشوارع بالمياه وانسداد الطرق المؤدية من وإلى المزارع.
مشاكل إدارية
وحدد حسين مشاكل زراعة العروة الشتوية الرئيسية بأنها تتمثل في عقبات التمويل والسياسات التمويلية، ومستلزمات الإنتاج والأسمدة والمبيدات، لافتاً إلى أن السياسات تُعلن مبكراً، لكن التنفيذ يكون متعثراً نتيجة لتأخير التمويل، بالإضافة إلى مدخلات الإنتاج، وأن غالبية التقاوى مغشوشة ومضروبة، مشيراً إلى أن صغار المزارعين يواجهون العقبات المتمثلة في التقاوى في ولايات السودان المتعددة، وقال إن معظم المبيدات فاسدة وأسعارها غالية لارتباطها بالقطاع الخاص، ولم يستبعد أن تحدث فجوة كبيرة في الإنتاج للموسم الزراعي الحالي وتوقع فشل العروة الشتوية بنسبة (70%).
تحقيق: محمد داؤود
اخر لحظة