تحقيقات وتقارير

الأبحاث العلمية.. أموال ضائعة وجهود مهدرة

(وما فائدة الثمار إذا تُركت لتذبل على أغصانها أو سقطت على أحواض أخرى)، بهذه الجملة دق عدد من الباحثين الأكاديميين ناقوس الخطر للجامعات التي تتكدس فيها آلاف الأبحاث العلمية دون الاستفادة منها، مؤكدين أنه لو تم تطبيقها على أرض الواقع فستلعب دوراً كبيراً في تطوير وخدمة المجتمع وتقدم حلولاً علمية للعديد من المشكلات، وأبدوا أسفهم على أن مصير هذه الأبحاث هو رفوف المكتبات، مؤكدين أنها تصبح في طي النسيان بمجرد إقرار البحث ومنح الشهادة لأصحابها، مما يضيع أموالاً طائلة على الباحثين الذين بذلوا جهوداً كبيرة في إعدادها، متسائلين عن السبب في عدم الاستفادة منها، حاثين الجامعات على مطالبة الباحث المتقدم لنيل الشهادة العليا (الماجستير)، أن يكون بحثه واقعياً ويمكن الاستفادة منه في القطاع العام أو الخاص.

*تشجيع القطاع الخاص
أنكر المركز القومي للبحوث أن تعتبر الأبحاث العلمية جهوداً مهدرة وأموالاً ضائعة، وقال نائب مدير المركز القومي للبحوث البروفيسور عاطف عبد الرحمن العاقب إن الدولة في هذه الفترة لها اهتمام كبير بالبحوث العلمية، و(لكن المسألة مسألة أولويات فقط)، حسب تدرج الدولة ومن ضمنها البحوث العلمية قد لا تكون من أولوياتها الأولى ولكن لها حيز في ميزانية الدولة، وجزم بأن الصرف على البحث العلمي له مردود وعائد على الدولة حتى وإن طالت فترة انتظار هذه النتائج، وأؤكد بأن الدولة بدأت تبدي اهتماماً ملحوظاً بالأبحاث العلمية، واستدل بأن الدولة جعلت من المركز القومي للبحوث جهة استشارية لها، في وقت أرجع فيه عدم الاستفادة من هذه الأبحاث إلى ضعف التعاون بين الجهات العلمية والقطاع الخاص، داعياً إلى تسهيل الخدمات وتقليل الضرائب والتصديقات وتقصير الظل الإداري للقطاعات الخاصة والتي بمقدورها دعم هذه الأبحاث العلمية، وأضاف أن هذه سياسات متبعة في الدول المتقدمة عبر وجود الشركات المستثمرة داخل الحرم الجامعي لتشجيع ودعم الطلاب الذين يجرون هذه الأبحاث العلمية.
وفي السياق شدد العاقب على ضرورة ملاحقة الذين يقدمون على بيع البحوث العلمية بالأسواق الآن خصوصاً السوق العربي قانونياً من قبل المطبوعات والملكية الفكرية وأيضاً الجامعات، وأردف لا بد أن تكون لها رقابة مشددة، مستنكراً بيعها بالأسواق على مرأى من العامة، ووصفها بالجريمة يشترك البائع والمشتري في تنفيذها، متسائلاً عن كيفية حصول هؤلاء الباعة عليها، وقطع بأن الجامعات ليس لديها دخل في ما أسماه بـ(فوضى المتاجرة) في هذه الأبحاث، وقال نائب المدير إن اللجنة التي تمتحن الطالب هي الجهة المناط بها تحديد إن كان هذا البحث يخص الطالب أم لا، وفي حالة معرفة أنه لا يخصه، هناك قوانين يعاقب بها الطالب. وختم بروفيسور عاطف عبد الرحمن حديثه بمناشدة للجهات المختصة من المطبوعات والملكية الفكرية والجامعات والجهات الأمنية محاربة هذه الظاهرة السلبية، ولا بد من ردعها ردعاً تاماً، ووجه برسالة خاصة للطلاب عدم التعامل مع هؤلاء الباعة إطلاقاً، فهذا يدخل الطالب في مساءلات قانونية.

*فائدة مُحتكرة
ويقول الدكتور والمحاضر بجامعة أم درمان الإسلامية في تخصص العلاقات العامة والإعلام متوكل أحمد حمد النيل إن الأبحاث العلمية في السودان يطول الحديث عنها، فهي درجات عليا يتحصل عليها الطالب فقط، وتوضع في المكتبات دون اهتمام ولا رقيب، ومراكز البحوث العلمية في السودان محدودة رغم كثرة الجامعات والكليات المختلفة، وكثرة بحوث الماجستير منها والدكتوراة، فلا بد من إنشاء عدد من المراكز للاستفادة منها والتنسيق مع الجهات ذات الصلة بالبحوث العلمية، ولا يخفى علينا أن طالب الدراسات العليا يحصل على الدرجة ويسلم بحثه بعد مناقشته، ويوضع هذا البحث في رفوف المكتبات لينال حظه من الأتربة حاله حال أي إناء في المنزل، ونعلم تمام العلم بأن التعليم بكل أنواعه في الآونة الأخيرة تدهور جداً في السودان لأسباب عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: هجرة الأساتذة بكافة درجاتهم وأخص بذلك الأساتذة الجامعيين، يقول قائل: إذا أردت أن تهدم أمة فعليك بثلاثة أشياء ومنها التعليم، فالتعليم من أساسيات الحياة، وحياة بلا تعليم كشجرة بلا ثمار وكالبيت الخرب.

(ماليزيا) مثال لدولة اهتمت بالتعليم ووضعته ضمن أهدافها المنشودة وحفزت كل من يعمل في الحقل العلمي، وها هي تتقدم لتصبح من الدول المتقدمة في العلم والتعليم، فالدولة لا تعير البحوث العلمية اهتماماً، بدليل أن الباحث يتحصل على توصيات من خلال نتائج بحثه ولا يستفاد منها، مع أنها يمكن أن تحدث تغييراً جذرياً لأي مؤسسة، باعتبار أن الباحث وجد مشكلة معينة محاولاً إيجاد حلول مناسبة لها وتفاديها لاحقاً، وكذلك الجامعات لا تهتم بالبحوث مع إمكانية التنسيق بينها وبين المؤسسات لعرض بحث معين والاستفادة منه، ومعظم البحوث العلمية تخضع للمراجعة من قبل خبراء في المجال من المشرف والمناقش الداخلي والخارجي، بالإضافة إلى مصحح لغوي لبعض البحوث.

وأحب أن أشير إلى أن الباحث يواجه صعوبات في الحصول على المعلومات التي تفيده في بحثه، فالمؤسسة لا تمده بالمعلومات لشيء في نفس يعقوب، وتبدأ في المماطلة وتخبره بأن هذه المعلومات تجدها عند (فلان) وهو خارج البلاد أو كل يوم في اجتماع، ونناشد الدولة بالاهتمام ورعاية البحوث العلمية على الأقل المميزة منها، وأن يكون هنالك تنسيق بين المؤسسات والجامعات في هذا السياق لكي لا تتمزق هذه البحوث وتذهب أدراج الرياح، كما أكد الدكتور متوكل على أن البحوث العلمية غير محتكرة لشخص أو جهة معينة، وإنما هي للجميع في حالة الاستفادة منها وفق ضوابط وأسس معينة من الجامعة المعينة، وأضاف أنه صحيح بعض من الطلاب يحصلون على بحوثهم بأخذ معلومات من البحوث السابقة والنت كدراسات سابقة مقارنة بالدراسة الحالية، وهذه من أساسيات الفصل الأول في البحوث النظرية، أما الطلاب الذين يستمدون جل معلوماتهم فهذا خطأ وعدم أمانة علمية إلا أن توثق وتكتب كافة بيانات التوثيق في أسفل الصفحة، وأيضاً بعض الطلاب ينقلون بحوثاً سابقة كاملة ويغيرون في اسم البحث فقط، وهذا غير مقبول على الإطلاق، وقبل عدة سنوات لاحظت أن العديد من البحوث العلمية حديثة وبها ابتكارات وحلول لبعض المشاكل التي يتطرق إليها الباحث.

*ضعف الميزانية
وفي ذات السياق يقول عميد كلية علوم الاتصال بكلية المشرق الدكتور النور جادين ليس كل الأبحاث العلمية تحمل خطط وعناوين حقيقية، كما أن المسؤولين يتعاملون مع هذه البحوث بطرق شكلية ليس إلا، وينتهي بها المطاف مركونة بإحدى الزوايا بالمكتبات، كما أن نتائجها لا تطبق في أرض الواقع وذلك لعدة أسباب منها الميزانية المخصصة لتلك المشاريع، فالدولة لم تخصص ميزانية كافية لتغطية هذه المشاريع وتطبيقها في أرض الواقع، كما أن المسؤولين يهتمون فقط بالمشاريع ذات الصيت العالي والصورة الواضحة والإعلانية الجالبة (للخبطات) الصحفية والتي تُعنيها وسائل الإعلام اهتماماً أكبر دون التأكد من مدى حاجة المجتمع والمواطن لها، فكل ما يرغب فيه المسؤولون هو الدعاية وليس إلا، والمنصف في الأمر أن على مستوى الجامعات الحكومية والخاصة ليست مرتبطة مع إستراتيجيات الدولة في التنمية، ما يتيح للطالب أو الباحث اختيار ما يحلو له من المواضيع وإجراء بحثه عليها، وهذه سياسة ممنوعة عند بعض الدول وتعد ميزة جيدة ومنصفة في حق الباحث.

*فاقد الشيء لا يعطيه
ويواصل دكتور النور حديثه قائلاً إن المسؤولين المناط بهم الوقوف على تلك المشاريع ومعاينتها فاقدون تماماً لتلك الخبرة التي تمكنهم من تقييم البحث أو المشروع ومعرفة إن كانت نتائجه تستحق التنفيذ أم لا، كما أنهم لا يولون هذه الأبحاث أي اهتمام وينظرون لها بعين الاستخفاف، والعائق الأكبر عدم إيمانهم بهذه النتائج ويطلقون عليها مصطلح (تنظير)، والبعض منهم يؤمنون بها ولكن لا يعتبرونها ذات أولوية.

*تجارة أبحاث
ويؤكد دكتور النور جادين عميد كلية علوم الاتصال أن السوق العربي أصبح مقراً لبيع الأبحاث العلمية الجاهزة والتي يتم بيعها مباشرة في العلن أمام مرأى الجميع بتلك المكتبات الإلكترونية التي تحمل لافتات إعلانية ضخمة تعلن عن استخراج الأبحاث العلمية بأسعار تناسب الجميع، لذا يلجأ الطالب أو الباحث لشرائها موفراً بها على نفسه الجهد والمال، وهذا الأمر يجب على الجهات المختصة النظر فيه ومعالجته سريعاً.

تحقيق: نشوة أحمد الطيّب
الاحداث نيوز