هِر في سروال المحلية
* كان طريح الفراش لأيام، لم ينتظر كثيراً منذ لحظة خروجه من المنزل يدفع درداقته، لحين وصوله للسوق حتى فاجأه باشبوزوق المحلية مطالبين بما عليه من التزامات مالية للأيام التي مضت، أقسم إليهم بأنه كان مريض ولم يعمل، ولا زال بحاجة للمزيد من الأدوية لشرائها حتى يتعافي، وهو سبب خروجه اليوم للعمل، لم يشفع له كل ذلك، فكان مصير الدرداقة حوش المحلية، وعليه أن يدفع متأخراته أولاً، إضافة للغرامة لفك حظرها واستردادها مرة أخرى، والنتيجة كانت التخلي عن (شقا عمره) للحكومة التي لم ترحمه وهو ضعيف، فنهبت ماله وتركته يواجه مصيره أياً كان شكله، بعد أيام تم القبض عليه متلبساً في مهنته الجديدة، متسلقاً أحد المنازل ليلاً.
تعول أسرتها المكونة من أربعة إخوة وأم كفيفة بعد وفاة والدها، لم تبلع من العمر العشرين عاماً بعد، ورغم ذلك كان عليها تحمل العبء وحدها في عدم وجود السند، كانت تعود عصراً من الجامعة التي واصلت فيها بشق الأنفس مادياً وجسدياً ومعنوياً، لتوقد (كانون) الشاي علي قارعة الطريق، وبعد أقل من ساعة كانت على موعد يتكرر كثيراً مع عسس المحلية الذين يصادرون (شقا) يومها دون وخزة ضمير ليفرضوا عليها العودة صباحاً للمحلية وسداد غرامة عملها لما بعد السادسة مساء، لأنها (كسرت القانون) على حد زعمهم، ولما تعذر عليها العمل تحت ضغط المحلية وجبروتها اضطرت لطرق الأبواب للعمل كخادمة نصف يوم، ولما فشلت أيضاً في هذه المهمة التي ارتضتها عليى مضض لم يكن أمامها سوي (طريق واحد لا ثانٍ له) لإسكات الأفواه الجائعة التي نتظرها بالمنزل، فصارت الطالبة النجيبة الشريفة زبوناً دائماً لمحاكم (النظام العام).
* كان معلماً باذخ العطاء، مليئاً بقيم وأخلاق الأنبياء، خرَج عشرات الأجيال، ومنهم نجوماً لامعة بالمجتمعات داخل وخارج السودان. وصل لسن التقاعد، ولم يكن بجانبه سوى زوجة وفية وابن معاق جسدياً، لم يكن أمامه سوى البحث عن عمل يساعده بجانب معاشه الضئيل، جمع ما لديه من مال وقرر فتح كشك صغير لبيع الصحف والمجلات والكتب، ونجح في عمله الجديد لأيام قبل أن تباغته المحلية بمطالباتها المتكررة، ولما فشل في إسكات جوعها الكافر، وصله إنذار بالإزالة، ولم تشفع له توسلاته لمقابلة أيَاً من تلاميذه السابقين ممن يشغلون مناصب عليا، فإتجه لفتح إحدى غرف بيته وجعلها فصلاً لتدريس التلاميذ، علها تدر عليه دخلاً يعينه علي منصرفات المنزل اليومية، وفشل أيضاً بسبب عجز أولياء أمور التلاميذ تسديد رسوم الدروس، ومع تفاقم مرض زوجته وابنه، لم يكن أمامه سوى سلك طريق واحد لا ثانٍ له، فكان مصيره السجن لعدم استطاعته سداد الغرامة نتيجة إدانته في قضيتي نشل وترويج الحشيش. ولا أحد يسأل عن مصير الزوجة والابن.
* هذه نماذج صغيرة وقليلة جداً وصلتني من قراء تحكي مآسي يعيشها مجتمعنا السوداني بسبب ما تسمى بالمحليات التي سلبت صلاحيات وزارات وجعلتها تقوم بأدوار خجولة تجاه المواطن، ولعل أبلغ ما قيل عن المحليات ما وصفه بها بعض القراء بأن آفة هذا النظام يكمن في المحليات التي أخذت سلطة الوزارات وباتت تتبارى في جمع أكبر إيرادات، دون مراجعة هذه المحليات من قبل الجهات المختصة، حتى أصبح المواطن هو من يسير دولاب الحكم مالياً، وأتوقع أن تطالب المحليات برسوم على دفن الموتى وتمنع عدم استعمال الكفن إلا بعد ختمه من المحلية، ولم يتبقى لتلك الحكومة الا أن تستعمل فعل للرجل الذي يعجز عن دفع الضريبة، بوضع الهر في سرواله وضربه بالعصا.
* والمطلوب لتصحيح المسار، هو وضع الهِر في سروال المحلية.
بلا حدود – هنادي الصديق
صحيفة الجريدة