الفراعنة السود
أورد البريطاني روبرت موركوت في كتابه الذي بعنوان ( الفراعنة السود … النوبة الذين حكموا مصر) معلومات وافرة في 342 صفحة . وكما هو معلوم ان كلمة فرعون لها تعريفات كثيرة ، ومن ضمنها تعني الحاكم الأعلى في مصر ،
وهي مثل اسم القيصر لدى اليونان والروم ، وعند الفرس كسرى ، والنجاشي عند الأحباش , وكما أوضح عالم الآثار الدكتور زاهي حواس ان الكلمة في اللغة القديمة كانت تنطق بر ــ عا ، بمعنى المنزل العظيم وتحولت في العبرية الى فرعو ثم الى العربية فرعون ، ووردت في القرآن الكريم واحد وسبعين مرة ، وبالتحديد فى سبع عشرة آية . ونظراً لاستحالة عرض معظم ما جاء في الكتاب ، يمكن اقتطاف بعض ملامحه في جزءين. الجزء الأول هنا يستعرض رسومات وتماثيل أثرية وجدت في معابد ومقابر كثيرة ومواقع مختلفة ، ذات دلالات واضحة عن الحياة العامة في تلك الحقبة الزمنية ، على أن يخصص الجزء الثانى لاحقاً إذن الله ، متناولاً منهج الحكم المركزي والمحلي وطريقة أيلولة السلطة وعلاقات أولئك الفراعنة الكوشيين بنظرائهم في الدول الأخرى، سواء أكانت دبلوماسية أو حربية . وبداية وجبت الاشارة الى أن غلاف الكتاب به صورة لتمثال الملك تهراقا مكسور الأنف ، ونفس الحال في صفحة أخرى لتمثال البطل مونزمهاتا. وواضح أن تهراقا كان أسمر اللون وفي أذنيه قرط ويرتدي قلنسوة تغطي نصف الجبهة . وهنا جاز التوقف قليلاً للسؤال عن سبب كسر الأنف لعدد من التماثيل . هل كان عن قصد أم بدون؟ حيث الربط بينه وما شاهدته في متحف تونس الملاصق للبرلمان ، حيث كل التماثيل هناك، وعددها لا يقل عن عشرة ، مقطوعة من الرقبة ، الأمر الذي يدعو الى الاستفسار عن سر ذلك ؟ وفي صفحة تالية من الكتاب تمثال تهراقا بوجهه الدائري الشكل وزيه الجميل متوشحاً جلد نمر وعلى رأسه تاجه الأنيق . ثم جاءت مومياء كاملة محنطة وكأنها متوفية يوم أمس بذات أصابع الرجلين الكاملين واليدين المثبتين والشعرالأسود الكثيف والوجه المستطيل ، ومقطع آخر لوجه متكامل بأسنانه وشاربه وشعر رأسه الكثيف . وهذا التحنيط يؤكد المستوى العلمي الرفيع الذي وصلوا اليه في ذاك الزمن . وهناك تمثال تحتمس وهو ممداً على ظهره ناظراً الى الأمام …أي الى المستقبل الزاهر ,ثم تمثال هاريماخيت كاهن أمون الأكبر في عهد الملكة تانوتاماني وهو حاسر الصدر ومجموعة من الحلي تطوق رقبته ومن ضمنها سوار . وتمثال للملك شبكة بعيونه الواسعة وعلى رأسه تاج الحكم الذي تبرز في مقدمته رأس ثعبانين ، اشارة الى القوة والمنعة ، ونحسب أن الثعبانين شعار تلك المملكة القوية الواسعة الأرجاء . ثم هناك القائد مونزمهاتا ، المتزوج حفيدة الملك بايه ، الذي لعب دوراً حربياً عظيماً تكلل بانتصارات باهرة ، وهو أسود اللون ضخم الحجم وأصلع الرٍأس ، ووجوده في مقبرة الملوك دلالة على الاعتراف بمكانة العسكريين الأبطال .
أما الرسومات الموضحة في الكتاب فكثيرة والمجال يقتضي اختيار بعضها، وهي بتتالي ورودها ، واحدة توضح الملك استيلا بايه ، جالسة على كرسيها تحمل عصاة، والوصيفة من خلفها والفارس أمامها يقود حصانه وعلى الأرض من يمينها ويسارها رجال ساجدون ونساء ساجدات، وفوقها شمس تضيء الظلام المدقع … مشهد يدل على مكانتها وهيبتها وأهدافها في تحقيق التنمية، الى جانب وجود بروتوكولات وآداب تعامل ( أوتوكيت ), ورسمة ثانية تظهر تعدد المناخات في المملكة ، من الصحراوي حتى السافنا الغنية ، والدليل على ذلك تنوع الحيوانات ، التي منها الأسود والفيلة والجمال والزراف والغزلان والذئاب والضباعة والضأن والطاؤوس والبجع ، ثم رسمة ثالثة للملكة كاوت جالسة على كرسيها الوثير وتمشطها ونزينها إحدى الفتيات ، وفي يدها اليمنى كوب ترشف منه مشروباً، وفي يدها اليسرى مرآة رائعة ترى فيها ذاتها الجميلة ، وفي رسمة رابعة شكل مقبرة جماعية دائرية مبنية من الحجر ملحق بها غرفة بها باب ونافذتين، إشارة الى الدفن في مواقع محددة ، وفي أماكن آخرى مقابر جماعية مستطيلة الشكل ومقابر خاصة في معابد وأهرامات ، ثم رسمة خامسة للمنزل الطيني المستطيل الواسع والباب الواحد والغرف البعيدة المتلاصقة مع الجدران والبهو الكبير وسبيل المياه والشونة …منزل يلبي حاجة السكن والاستضافة وتخزين مؤونة العام . ورسمة سادسة توضح مركبا به أبقار، يقوده قبطان جالس في الأسفل ، ومشرف عليه يوجهه من أعلى، تعبر عن سبل المواصلات النهرية آنذاك ، وأن الثروة الحيوانية اضافة الى الزراعية كانت من أساسيات التجارة . ورسمة سابعة بها ميزان كبير ذو كفتين متدليتين ، كفة عليها أبقار سمينة وكفة عليها ذهب ، وهي تشير الى أن التجارة كانت عن طريق التبادل السلعي وأنهم يعتنون بثروتهم الحيوانية . ورسمه ثامنة لأمراء وأميرات يرتدين ملابس مزركشة وأقراطاً في الأذن وغطاء رأس مربوط كحلقة دائرية وفي أعلاها ريش الى جهة الأعلى ، وهي تدل على أن التزين الجمالي للجنسين . ورسمة تاسعة مخصصة لجمل سباق قوي ، وعلى ظهره راكبان . الأمامي يقود بعناية شديدة ويجلس خلفه محارب باتجاه معاكس حاملاً قوسه وموجهاً رمحه ضد العدو، ومنها يستدل أن الكوشيين كانوا يستخدمون الجمال أيضا وسيلة في الحرب والأقواس والرماح أداة قتال . وأخيراً رسمة تبين معركة كوشيين ضد ليبيين تلاحمت فيها الأجساد واشتبكت بالسلاح الأبيض … خناجر ورماح وعصي ، وجرحى وموتى تحت الأرجل ، ثم اقتياد قائد عسكري ليبي مقيد اليدين ومجموعة الحرس الكوشي المسلح من خلفه ، إشارة الى الانتصار بشجاعة .
ونواصل إن شاء الله..
الانتباهة-بروفيسور محمود حسن أحمد