“الماء”: تفسير بيوثقافي لنشأة الكون
تقارب الأنثربولوجية البريطانية فيرونيكا سترانغ في كتابها “الماء: طبيعة وثقافة” (كلمة)، الذي نقلته للعربية المترجمة والقاصة الأردنية هيفاء أبو النادي، علاقتنا الـ”بيوثقافية” مع الماء التي “تظلّ محورية، لا من أجل منفعة البشر فقط، وإنما لصالح الكائنات الحية كلِّها أيضاً”، بحسب مقدّمة الكتاب.
تضيف سترانغ أن “طرق تفاعل البشر مع الماء ثقافياً تُماثلُ تفاعلهم الطبيعي معه؛ فعلى امتداد الزمان واختلاف المكان، تنوّعت الطرق التي تتبَّعَتْها المجتمعاتُ في التفكير بالماء، وفهمه، والعمل فيه، على نحو خيالي متشعّب من جهة، ومتّسق بشكل ملحوظ من جهة أخرى”.
تبتدئ المؤلّفة من السؤال الأوّل الذي طالما ألحّ على البشرية منذ بدايات استيطانها حول مصدر الماء؛ إذ اعتقدت المجتمعات القديمة أن الآلهة الخيّرة فعلت أمرين؛ إما أنها بعثت المطر لتساعد البشر في مساعيهم، أو حبسته عنهم (أو أرسلته بكميات عقابية) عندما يسيئون التصرّف.
يمكن القول هنا إن “خير الماء وشرّه” قادا الإنسان إلى البحث عن تلك العلاقة التي تربط الماء بالشمس، حيث جرى وصفهما في معظم الثقافات بــ”الإلهين المتعاونين”، ثم انتقل بعد ذلك إلى تحليل العالم من الناحية المادية، كما ظهر في الفلسفة الإغريقية التي توارثتها حضارات أخرى أن الماء يشكّل مادة أولية لنشأة الكون.
قادت قوى الماء في توليدها للحياة وفي تأدبيها البشر إلى تثبيت المياه كمركز للسرديات حول الأديان السائدة، وهو ما توثقه سترانغ عبر تفصيل حضورها في الفلسفات والديانات وتجلّيه الرمزي والأسطوري فيها.
من جهة أخرى، لا تغفل ذلك التوازي بين دراسة الماء على يد علماء الطبيعة والأحياء والكيمياء والطب وبين تمظهره في الفلسفة والأدب وعلم النفس والمجتمع، وفي السياسة والبيئة ومجالات أخرى لاحقاً، لتقدّم سجلاً مفصّلاً لتاريخ الماء منذ آلاف السنين.
كما يعرض الكتاب تلك المحطة الفاصلة في التاريخ الإنساني التي تسمّى “ترويض الماء”، نتيجة لتأسيس المجتمعات الزراعية، واختراع الأدوات المعدنية، وتدجين الماشية، ما أدّى إلى تطوّر تقني يتيح السيطرة على الماء وتوجيهها من خلال بناء السدود وابتكار آليات للري وتأمين شبكات وقنوات مائية وأخرى للصرف الصحي لإيصالها إلى مسافات أطول لينتفع بها أناس أكثر.
تصل الكاتبة إلى أهمية المياء في تسيير عجلة الثورة الصناعية، ليتحوّل إلى “قيمة اقتصادية” شجَّع على خصخصته؛ ما سبّب صراعاتٍ كبرى على المُلكية والسلطة، ونتيجة للضغط المتزايد على الموارد المائية –على مرِّ التاريخ- ظهرت مشكلاتٍ بيئية مدمرة تهدّد حياة البشر والكائنات الأخرى.
العربي الجديد