بلغ عددهم (2447) المشردون بالخرطوم..”ناس” على هامش الحياة
(51.9%) نسبة المتعاطين للسلسيون و(3.8%)للإيثانول
اقتصادي: يمكن أن تسهم هذه الفئة في الإنتاج القومي إذا… !!
طبيب: الكسور والسيلان والزهري الأمراض الأكثر شيوعاً وسط المشردين
لم يتعد (جابر) السابعة من عمره.. كسا الدمع وجهه وجف من شدة الجوع فخرج من منزل أسرته يجر أذيال الأسى يجهل وجهته تماماً، لكنه على يقين بأنه سوف يجد ما يسد به الجوع، أثناء توهانه عثر على (قطعة قماش وجركانة ماء) فحملهما ثم اتجه نحو مبنى خدمي بالخرطوم شرق وبدأ (ينظف) زجاج العربات المتوقفة هناك، لكنه لم يحصل على شيء بل تم طرده بقسوة من جانب أصحاب العربات.. وفي موقف جاكسون وجد مراده حيث (الزبالة وأكوام النفايات) التي تحتوي على بقايا مختلفة من الأطعمة.
ظروف قاسية
فبعد عملية نبش مرهقة داخل (كوشة) بجاكسون استخلص وجبته من فضلات المطاعم، ثم قطع المسافات مشياً على الأقدام إلى أن وصل مبنى يهتم بشؤون الطفل (المجلس الأعلى للطفولة) وهناك وأمام ناظري رأيته يغسل في عربة فارهة وفجأة ظهر صاحب العربة وقام بطرده وسبه.. حسب ما أفادني جابر فإن والده هجر الأسرة منذ أربع سنوات ووالدته تخرج في الصباح ولا تعود إلى المنزل إلا في المساء حاملة بين يديها (خمسة رغيفات وحبة فول) لا يكفي لإطعام أخواته البنات الثلاث، لدىه شقيق واحد يسبقه بعامين يعمل في غسيل العربات ويعود المنزل مرة أو مرتين في الأسبوع، وجد جابر نفسه مضطرا للعمل ولكنه فشل فاختار الشارع بحثاً عن حياة جديدة، انضم إلى مجموعة من الأطفال يبعثرون (الأوساخ) فيأكلون ويمرضون ثم يموتون في الشوارع مجهولي الهوية.
على الهامش
(جابر) واحد من (2447) مشرداً يعيشون حالياً في شوارع الخرطوم حالهم يغني عن السؤال يعانون أوضاعاً سيئة للغاية في النهاريتسابقون على مكبات النفايات في الأسواق لالتقاط الوجبات فقد اعتادت (أمعاؤهم) على تناول الأطعمة الملوثة وفي المساء يتأرجحون ويتخبطون في الشوارع وعلى أرصفة مواقف المواصلات نتيجة لتناولهم (السلسيون) تلك المادة المعروفة التي يتناسون بها واقعهم فيشكلون قصصاً تروى بالدم والدموع تتراوح أعمارهم بين (4 ـ 15) عاماً يرتدون ملابس رثة وتفوح من أجسادهم روائح نتنة، أصبحوا جزأ لا يتجزأ من مشوهات العاصمة، بعضهم وجد مسكنه في المجاري والبعض الآخر سكن قمة مكبات النفايات.. هذا هو حالهم المؤسف في الأمر هناك عدد من (المعتوهين) انضموا لقائمة التشرد غير الإرادي .
حديث الأرقام
لاحظت المسوحات التي قامت بها وزارة الرعاية الاجتماعية بولاية الخرطوم أن ظاهرة التشرد كانت في زيادة خلال السنوات الماضية حيث بلغ عددهم في العام (2003م) (34000) مشرد بزيادة (22) ألف مشرد عن العام (1991م) ، وظل العدد في انخفاض حتى وصل إلى (13) ألف مشرد خلال العام (2008م ) وحسب آخر إحصاء للمشردين تم إجراؤه في العام (2013) م بلغ حجمهم حوالى (2447) مشرداً، وأثبتت دراسة حديثة أعدتها الوزارة تحصلت (الصيحة) على نسخة منها أن أعلى فئة عمرية من التشرد تتراوح بين (12 ـ 17) عاما من الجنسين حيث بلغت نسبة الإناث (15%) مقابل (85%) للذكور ومعظمهم من السودانيين، وبلغ عدد المتزوجين منهم نسبة (7%) ونسبة الذين أكملوا مرحلة الأساس (63%) أما نسبة الأمية وسط المشردين فبلغت (14%) فيما بلغ عدد العاملين منهم نسبة (58%) بينما مثلت عمالة الأطفال نسبة (40%) ووصلت نسبة الذين يعانون من مشاكل صحية إلى (58%) ونسبة الذين والديهم على قيد الحياة (10%) مقابل (43%) للذين يعيشون مع أسرهم فيما وصلت نسبة عدم إقامة الوالدين معا بسبب الطلاق (64%) ووصلت نسبة الهجر (56%) .
الظروف الاقتصادية
فيما مثلت الظروف الاقتصادية السبب الرئيسي لخروج نسبة (23%) إلى الشارع حيث مثلت فترة الإقامة في الشارع لمدة خمس سنوات ماضية نسبة ( 47%) ونسبة التشرد الكلي (37%) ونسبة التشرد الجزئي ( 36%) ونسبة المتعاطين الكحول ( 26%) واتضح من خلال اختيار عينة من (1000) طفل من مجتمع النازحين والمشردين ممن يعيشون بمفردهم بالخرطوم أن نسبة الذكور مثلث (67%) والإناث (33%) وكان الفقر من أسباب التشرد بنسبة ( 22,1%) ونسبة العنف المنزلي (35%) تليه الحرب والصراعات المسلحة بنسبة (22%)، وقد ثبت من خلال العينات أن نسبة الذين يتعاطون المسكرات والمخدرات المتمثلة في السلسيون تمثل (51,9%) ونسبة الإيثانول (3,8%) أما نسبة الخمور البلدية (11,5%) ونسبة التبغ (5,8%) والتمباك (25%) ومثلت نسبة الحشيش (19%) ومن خلال التوزيع الجغرافي لهم فإن أغلب المشردين يتفرخون من مناطق محددة بولاية الخرطوم منها (مايو ـ أمبدة نيفاشا ـ الحاج يوسف) .
عوامل مركبة
وفي تحليلها للظاهرة أرجعت د.ثريا إبراهيم المشكلة إلى عوامل مركبة اقتصادية في المقام الأول ثم النزوح والحروب والطلاق والتفكك الأسري وتهرب الآباء من المسؤولية فيضطر للخوض في أعمال هامشية، وأكدت أن أغلب المشردين يأكلون وجبة واحدة في اليوم لدى أسرهم تحضرها الأم العاملة في المساء بعد التسول فيبدأ التشرد جزئياً ثم كلياً وبالتالي يتحول إلى طاقة هدامة تهدد أمن المجتمع أن لم تجد العناية الدقيقة، وترى ضرورة إثارة الوعي المجتمعي بقضية التشرد وحث المجتمع بمسؤوليته نحو هذه الفيئات.
ظواهر سالبة
واتفق الخبير الاقتصادي أحمد مالك مع الحديث السابق المتعلق بتداخل الفقر مع ظروف أخرى في بروز ظواهر سالبة كقضية التشرد فية من الممكن أن تساهم في زيادة الإنتاج ودعم الاقتصاد إذا ما توفرت لها أساليب التدريب وتمليكها المهارات اللازمة التي تمكنها من المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، مما يستدعي تنمية قدرات الأسر بالدرجة التي تمكن من توفير احتياجات الأطفال وتنشئتهم بطريقة سليمة مع فتح فرص عمل جديدة تساعد على استمرار المعيشة.
القسوة تولد الانفجار
إلا أن للحروب الأهلية والنزاعات والصراعات السياسية أثراً مباشراً في عدم استقرار بعض الأسر وعرقلة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية مما يؤدي إلى اتساع دائرة الفقر وتداعياتها المختلفة حسب إفادة الدكتور محمد كرار أستاذ العلوم السياسية بعدد من الجامعات بالخرطوم، ويرى أن للتدخلات الدولية والظروف الطبيعية من سيول وأمطار وجفاف وتصحر وتدهور بيئ دوراً كبيراً في اكتظاظ الشوارع بالآلالف من المشردين صغاراً وكباراً.
تربية خاطئة
فيما يقول د. نصر الدين أحمد أستاذ علم النفس بجامعة أفريقيا العالمية إن القسوة والتربية الصعبة والتنشئة المتشددة تؤثر تأثيراً سلبياً على نفسية الطفل المتشرد وكبار السن تولد لديهم كراهية وتقتل الثقة بالنفس وروح المبادرة، كما أن الإهمال والتخويف وافتقاد الحب والمودة وتحقيق الذات يجعلهم يرتمون في محيط بيئات أخرى مع أناس آخرين لتحقيق أهدافهم المتمثلة في الاشتباكات النفسية والوجدانية، وعندما تحيط بالفرد مثل هذه العوامل تصدر منه السلوكيات العدوانية والعنف في بعض الأحيان نظراً لترسيخ مبدأ البقاء للأقوى في أذهان المشردين ، والاستجداء والاستعطفاف والإلحاح بشدة لتلبية طلبه والحقد على المحيطين سواء في الشارع أو الأماكن العامة ممن ينعمون بحياة سوية وبعضهم يمارس الإجرام والانحراف كوسيلة للحصول على المال أو إرهاب العامة كنوع من إظهار القوة والانفعال الشديد غير المعتاد، وانفجار السلوك غير المعتاد مثل المشاكسة ومحاولة التحرش بالآخرين والقدرة الفائقة على الكذب لكسب ود الآخرين وتناول المخدرات أو استنشاق مواد أخرى وغيرها من الانحرافات والاعتداءات الجنسية بين أفراد نفس الفئة، والأمر بحاجة إلى مزيد من البحوث والدراسات العلمية في ظاهرة أطفال الشوارع والتشرد .
أمراض بـ(الكوم)
يتعرض المشردون للعديد من الأمراض لعدم الحماية الاجتماعية الكافية وعدم وعيهم بالمخاطر الصحية التي يمكن أن يتعرضوا لها والتي تنشأ نتيجة لظروفهم مما يساعد على انتشار الإيدز بينهم ومن ثم نقله للمجتمع المحيط، هذا بالإضافة لانعدام التغذية السليمة والتعامل السالب مع البيئة مما يؤثر عليهم هكذا أفاد الدكتور عباس إدريس، طبيب عمومي بمستشفى أم درمان، وأضاف: تعاني نسبة (43%) من أطفال الشوارع الذكور من أمراض معدية، وتعاني نسبة(69%) من الإناث من التهابات الصدر أثناء وجودهم في الشارع، حيث أثبت بحث قام بإجرائه حول أمراض المشردين أن حالات الإسهال لدى الذكور بلغ حوالى (867) حالة خلال أربعة شهور ماضية، وأن أكثر الأمراض شيوعاً بين الذكور والإناث تمثلت في كسر الظهر والحنك وأمراض الأجهزة التناسلية مثل السيلان والزهري، إلى جانب الحساسية والحكة والبلهارسيا هذا بالإضافة لوجود أمراض أخرى منقولة جنسياً وسط المشردين، وأشار أنهم نادراً ما يصابون بالملاريا، في سياق ذلك أكدت دراسة أعدتها وزارة التنمية أن نسبة الأمراض الجلدية وسط المشردين بلغت (31%) للذكور، و(54%) للإناث بينما بلغت الإصابات الخطيرة جروح نسبة (79%) للذكور مقابل (54%) للاناث .
جهود مبذولة ولكن
استنادا لحديث (حنان عبد الله ) مدير إدارة البرامج الاجتماعية والمشروعات بوزارة الرعاية ولاية الخرطوم أولت الوزارة اهتماماً خاصاً بقضية المشردين وذلك من خلال توفير الحماية والرعاية حيث نفذت عدة حملات بالتعاون مع شرطة أمن المجتمع لجمع المشردين والمتسولين وإرسالهم إلى مراكز التدريب والتأهيل وجميعهم يتلقون التأهيل النفسي والاجتماعي كما يتم تدريبهم على المهن الحرفية وأنشطة دعوية وبرامج روحية وبعد التأهيل يتم لم شملهم مع أسرهم عبر زيارات متكررة وقد اتضح أن نسبة (60%) من المشردين الجدد لديهم أسر، أما المشردون الذين خرجوا إلى الشارع في وقت مبكر فلم تتمكن الإدارة من معرفة أسرهم وحالياً أغلبهم تزوج واشتغل، وهناك مشردون حديثو عهد تقدم لهم الخدمات العلاجية والوجبات في الشارع لمدة يومين في الأسبوع لأنهم يرفضون الحياة في دور الإيواء كما تقدم لهم الوجبة كاملة للحد من تناول السلسيون الذي يستخدمونه من أجل سد الجوع، أما بالنسبة للمعتوهين فقد تم رصدهم في التقرير الاسبوعي وهناك عمل جاري لادخالهم مستشفى عبد العال الادريسي لتلقي العلاج واعلنت عن ترتيبات لدمجهم في المجتمع وادخالهم منظومة التامين الصحي .
بعد العرض
من خلال النتائج التي توصلنا إليها أن هناك عوامل مساعدة لانتشار المشردين منها نمو التجمعات العشوائية التي تمثل البؤر الأولى والأساسية المستقبلة لهم والتسرب من الدراسة ودفع الأطفال إلى العمل والتسول في الشارع وقلة مدارس التعليم الإلزامي ونقص الأندية، وعدم توفر المسكن الصحي الذي يتناسب مع حجم الأسرة وارتفاع نسبة البطالة بين أرباب الأسر التي تدفع الأبناء والنساء للخروج والتسول في الشارع .
ولقد خلصت ومن خلال الإفادات وآراء الباحثين أن التشرد لم يعد ظاهرة اجتماعية كما في السابق بل أصبح مشكلة لها أبعادها الأمنية وإفرازاتها الاقتصادية والصحية.. وأنها من أكثر المشكلات التي حظيت بدراسات على المستوى النظري لكنها في المقابل أقل فقراً من حيث الرصد والمعلومات والإحصاءات الدقيقة.
تحقيق: إنتصار فضل الله
صحيفة الصيحة