رمضان قبل أن تولد (أغاني وأغاني)
قبل ثلاثة وعشرين عاماً كان عمري عشرة أعوام فيما أذكر تزيد أو تنقص قليلاً، فأنا من قرية لا يهتم أهلها بشهادات الميلاد ولكنهم يسترجعون ذكرياتهم وفقاً للمناسبات الاجتماعية، (الشافع أبرويس دا ولدوه يوم وفاة حاج اللمين)، (بتي فطمتها من الرضاعة صبحية دخلة إبراهيم على ميمونة)، (حفلة النزير ود الهيف ولدي كان عمره شهرين) تسترجع تلك التواريخ من الذاكرة بمتعة وضحكات عالية.
? المهم أنني ولدت في قرية تحفها المزارع من كل مكان، ويتوسطها شارع فسيح للسيارات، يمضي اليوم واليومان ولا تمر فيه سيارة، ربما كارو تراب تجرها خيول متعبة، كان عندنا جزارة في طرف القرية وفرن بلدي وتعاون ومدرسة مسورة بشوك الكتر، كانت قرية بهية و(حنونة) إذا اشتكى أحدنا من المرض انكسرت فيه (الخلوق) ب(سلامتك وكفارة) .. وكانت أعمدة الكهرباء منتصبة فقط وهي بلا أسلاك وبلا كهرباء، وكنا نجلب الثلج من (المعيلق) على ظهور (الحمير) بالذات في رمضان، ونلتهم نصفه كأنه حلوى، فيجعل كبدنا رطبة، ورائحة النشارة المبتلة لا تقاوم، يا الله من رائحة النشارة
? بالطبع أتذكر أول يوم صمت فيه وكيف كان الجو ساخناً ومتعرقاً، في ذلك اليوم العصيب جلست طوال النهار في (المزيرة) وعطنت وجهي في (اللقاي) تسع مرات، كان الزير معصوبا بقطعة من القماش لا أعرف ما علاقتها بالحفاظ على برودة المياه؟ كنت أحتضن المذياع بولع وتلك الموسيقى الهندية التي ارتبطت بوقت والظهيرة تحديداً، والمسلسلات الرمضانية عند المغيب تفتح نافذة للخيال والسحر، بعد الأفطار أجلس خلف (السباتة) ويمد البعض إلى بجك (الليمون) و(الآبري) فتمتلئ العروق، والبطون، كان الناس يزحفون (بصوانيهم) ويخلون أماكنهم للضيوف، فلا يجلس شخص أمام صينيته أبداً، يتبادلون الطعام والشراب، ويصلون بقصار السور، ويبتسمون دوماً وغالباً يصوب أحدهم نظره للسماء ليتبين رؤية (الهلال) فيكتشف أننا صمنا متأخرين يوما أو يومين، والذين في عيونهم ضعف بصر لا بصيرة يكتفون بالإصغاء، ويتندر عليهم إخوانهم، وبراءة الأطفال في عيونهم، وكان يخيفني ضرب النوبة للسحور، وأتخيل من يفعلون ذلك بلا رؤوس ومحض أشباح يختفون عند الصباح.
?كنت مولها باللعب في السهلة، (شليل) (وحرت) و(حرامية وبوليس)، منذ ذلك الوقت انطبعت في خيالي صورة (الحرامية) وعندما كبرت وجدتهم هم أنفسهم ولكنهم بربطات عنق وأحذية لامعة! ولن أنسى بالطبع (جدتي) وهي (تهز) (السعن) وتصب السمن على قدح (اللوبة) ، وحولها أناس طيبون وبسطاء، لفرط بساطتهم تخشى عليهم من غدر الدنيا، يبذرون الخير في الطرقات، أتذكرهم جميعاً، فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، أتذكر ضجيج (السعية)، وروث البهائم، والملاهي المصنوعة لفرحة عابرة، أتذكر لسعات البعوض، و(زقزقة) طيور الجنة الملونة، والفتيات المكهربات بالجمال، لا يشعر الناس بجمالهن إلا يوم عرسهن، يتكشفن عن سحر غامض.
? أتذكر شجرة (اللالوب) التي نبتت في صدر امرأة تسمى (زليخة) تماهت كما الأسطورة .. أمي في الصباح وهى تدس في جيبي (مصروف) الدراسة وتقلب جردل (العجين) ، (بص الدسيس) وهو يطلق بوقه المايز.. أتذكر كل شيء، حتى الأيام الحزينة فليس بالضرورة أن الأسى القديم يفسد متعة الحاضر، لأن الحزن كان وقتها جميلا .
بقلم
عزمي عبد الرزاق
شكراً أستاذ عزمي،،،،
لرفضك المصلحة الشخصية و قفل الباب أمام الاستخبارات المصرية،،
أصالة الرجال غالباً تأتي من القرى،،
هذا يدل على اصلك عندما تتحدث عن قريتك وسط هلام الاشباح ومتحضري المدن
ذكرت كل شيء الا القرية
يا لها من ايام وذكريات تشدك معها الى حنين الماضي وطعم القريه التي بداخل كل منا .
ما آخذه على مقالك خاتمته فلم يكن من الحصافه الزج بالاسماء بل بالمقابل لعل الكل كان يتلهف يان تدلنا على اسم هذه القريه الوادعه الجميله وليس زليخه .
أتمنى ان لا يكون دس السم في الدسم مفتعلاً وان تكون مجرد ذكريات بريئه .
حليل شليل وحليل السعن وحليل قدح اللوبه .