الجرأة .. إرث أوباما في مواجهة منتقديه
في كتاب “الجرأة” يتحدث الكاتب والصحفي الأميركي المعروف جوناثان تشايت عن إرث أوباما خلال حكمه للولايات المتحدة ثماني سنوات، ذلك الإرث الذي يجعله -حسب رأي المؤلف- واحداً من “أفضل رؤساء أميركاوأكثرهم تأثيراً”.
ويغوص المؤلف عميقاً في سجل أوباما على جبهات السياسات الرئيسة في الاقتصاد والإصلاح الاجتماعي والبيئة والسياسة الخارجية، لـ”يُثبت بالدليل المحسوس” -عبر فصول هذا الكتاب- الأسباب التي توجب أن يحكم التاريخ على الرئيس الأميركي الـ44 بأنه كان واحداً من “ألمع وأعظم رؤسائها”.
خطيئة أميركا
يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان “خطيئة أميركا الأولى” حيث يتناول المؤلف الحديث عن زيارة باراك أوباما لولاية آلاباما في 7 مارس/آذار 2015، ووقوفه على “جسر إدموند بيتوس” حيث انطلقت منذ خمسين عاماً المسيرة الأولى المطالبة بالحقوق المدنية للسود الأميركيين.
فمنذ أربعة عقود تعرض المتظاهرون للضرب والقمع حين طالبوا بحق شرعي لهم يضمنه الدستور الأميركي. وها هو اليوم أول رئيس أسود في التاريخ الأميركي يقف تحية لذكرى من قضوا من أبناء جلدته، في سبيل أن تشمل الحقوق المدنية كل المواطنين الأميركيين دونما استثناء، وفي مقدمتهم السود الذين حرموا منها طوال عمرهم.
ويمضي الكاتب مقارناً بين الماضي والحاضر في تاريخ الأميركيين السود، مشيراً إلى أن بعض هؤلاء الذين شاركوا في مظاهرات آلاباما منذ عقود ما زالوا أحياء، وبعضهم وصل إلى سدة الكونغرس ممثلاً لولايته كما هو حال عضو الكونغرس جون لويس.
ويضيف تشايت أن “ظاهرة أوباما” استطاعت أن تدوّر زوايا المفارقة العرقية في أميركا، وتخفف إلى الحد الأدنى انعكاساتها على المجتمع الأميركي الذي ظهر فيه حزب الشاي الأكثر تشدداً ويمينية، والذي ناهض سياسات أوباما خلال فترتيْ حكمه. كما استطاع أوباما وبالمقياس نفسه أن يشذب المشاعر العرقية المتعصبة، ويحولها إلى النهج الليبرالي المنفتح على الآخر.
ويرى المؤلف أن هذه التحولات ستستمر بعد أوباما عقودا مديدة، لأن أوباما لم يكن فقط مجرد “المؤثر الأعظم” على الجيل القادم التواق إلى الانفتاح على العصر والآخر المختلف، بل إنه شكّل بالفعل حجر الزاوية لقضية الجيل الجديد وطموحاته.
وفي فصل: “تلافي وقوع كساد اقتصادي جديد”، يمضي الكاتب في شرحه كيف واجه أوباما أكبر تحدّ اقتصادي ومالي واجتماعي منذ فترة رئاسته الأولى، والذي تجلى في الكساد الاقتصادي الذي ورثه عن سلفه جورج بوش الابن، وواجهه منذ سنته الأولى في البيت الأبيض (عام 2009).
ويشرح تشايت تعقيدات الحالة الاقتصادية للبلاد والإصلاحات التي تضمنتها الخطة الإستراتيجية الاقتصادية والمالية لأوباما، والتي نفّذها ليجنّب بلاده الوقوع في مأزق الكساد الكبير، وطبعاً وسط ممانعة من قوى الضغط (اللوبيات) وأصحاب المصالح.
ويشير إلى نجاح أوباما في تطبيق أجندة اقتصادية متقدّمة، رغم التشويش والتعطيل الذي كان يمارسه خصومه من الجمهوريين الذين كانوا يسيطرون على الأغلبية في الكونغرس، إذ كان بإمكانهم تعطيل أغلب مشاريعه التي تحتاج إلى موافقة مجلس النواب لإقرارها.
لكن أوباما تمكّن فعلاً من تمرير قانون الإنعاش الاقتصادي وإعادة الاستثمار، الذي يهدف إلى إعادة العافية للاقتصاد الأميركي الذي عانى من انعكاسات الأزمة المالية العالمية في ذلك الوقت.
وقد شمل هذا القانون عناصر تحفيزية للاقتصاد، منها زيادة الإنفاق الفدرالي على الرعاية الصحية والتعليم وخفض الضرائب والاستثمار في البنى التحتية. وهكذا استطاع أوباما أن يعبر باقتصاد بلاده هذه الأزمة ويمنعها من التحول إلى كساد طويل الأمد.
الخيبة غير المتوقعة
يمضي تشايت في كتابه متحدثاً -بالتفصيل وفي فصول منفردة- عن “أوباما كير”، وهو برنامج الضمان الصحي الذي يعتزّ به، وكذا عن إنجازات الرئيس في حماية البيئة والحد من الانحباس الحراري في البيئات الصناعية، وعن اعتماده الدبلوماسية في الأزمات الدولية لتجنيب بلاده ويلات الحروب فيما وراء البحار.
“على الصعيد الدولي وسمعة أوباما وشعبيته العالمية؛ يرى مؤلف الكتاب أن حيازة أوباما لجائزة نوبل للسلام عام 2009 بعد تسعة أشهر فقط من وصوله البيت الأبيض، لا يتعلق بإنجازاته بقدر ما يتعلق بالرسالة العالمية التي أرسلها وصوله إلى سدة الحكم في أميركا، وما رافقها من انقلاب المناخ السياسي ”
ورغم ذلك فإنه يفرد أطول الفصول باسم: “حتمية خيبة الأمل”، وفيه يكتب أنه لم يكن من الممكن تفادي الاعتراف بخيبة أمل زملائه اليساريين في نهاية الثماني سنوات من حكم أوباما.
ويضيف أن التعليقات المكتئبة تأتي من قادة اليسار الأميركي، ومن دائرة أوباما الضيقة من الإعلاميين البارزين ممن شكلوا ماكينة تلفزيونية لحشد الدعم له مثل راشيل مادو وتوماس فرانك، وحتى الفنان صاحب اللوحة الشهيرة التي رسم فيها أوباما وأسماها “الأمل” -وهو شيبارد فيري- كان يشعر بالخيبة!
يحاول تشايت تحليل هذه الظاهرة التي تجلّت في خيبة واضحة كان من المفروض أن تكون احتفاء بفترة رئاسة أوباما التاريخية؛ فيقول: قد تكون العوامل التي تقف خلف تنامي شعور الخيبة ذاك ترجع إلى وسائل الإعلام التي رسمت توقعات غير واقعية وأحيانا مستحيلة التحقيق.
وكذلك قد تكون دوافع الحنين (النوستالجيا) إلى الفترات الرئاسية السابقة في التاريخ الأميركي، مثل عهود فرانكلين روزفلت وجون كينيدي وجيمي كارتر، حيث كان الأميركيون يرغبون بقوة في استعادتها مع أوباما.
لكن تشايت يرى أن العامل الأقوى في تنامي خيبة الأمل من أوباما يكمن في الليبراليين أنفسهم، لأنهم يحتفون بالمظاهر التي تصاحب وصول رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض أكثر من اهتمامهم بالبرنامج الفعلي الذي سيجلبه هذا الرئيس إلى أميركا، وهل هو جادّ وقادر على تنفيذه!
وبدلاً من السير في برامج التنمية والإصلاح؛ كان الليبراليون مشغولين بالجزالة التي تحملها لغة أوباما وخطاباته الرنانة، ومنغمسين حتى آذانهم في مقارنات وهمية له مع الرؤساء السابقين الذين يتوقون إلى رؤيته على صورتهم.
أما على الصعيد الدولي وسمعة أوباما وشعبيته العالمية؛ فيفيد تشايت بأن حيازة أوباما لجائزة نوبل للسلام عام 2009 بعد تسعة أشهر فقط من وصوله البيت الأبيض، لا يتعلق بإنجازاته بقدر ما يتعلق بالرسالة العالمية التي أرسلها وصوله إلى سدة الحكم في أميركا، وما رافقها من انقلاب المناخ السياسي وبداية عهد جديد يختلف تماما عن عهد جورج بوش الابن.
وبمعنى آخر؛ فإن أوباما تم تكريمه لإنجازه الوصول بحد ذاته، وما سيجلب إلى أميركا والعالم من دبلوماسية دولية قد لا تشبه ما مرت به في مرحلة سلفه التي امتدت من 2001 إلى 2008.
فقد تمكن أوباما من أن يستبدل إدارة جمهورية سريعة الفعل ورد الفعل -الذي قد يكون مدمراً كما في حالة الحرب على العراق- بدبلوماسية “عاقلة ومتأنية وبراغماتية، تتجنب الغوص في رمال الحروب المتحركة”.
الجزيرة نت