منطقة مايو.. البسطاء يصرعون
(ربة منزل)، تؤكد أنها تتجرع كأس العلقم كل مساء، لأنها تجد صعوبة بالغة في النوم رفقة توأمها خارج الغرف خوفاً من دخان ينبعث من مصنع يقع على مقربة من منزلها بحي دار السلام بمايو، وجزمت بأن معاناتها في حالة انقطاع التيار الكهربائي تتضاعف لأنه يصبح عليها العمل على (تهويتهم تقليدياً) حتى عودة التيار مرة أخرى، تناصفت “إحسان الريح” (ربة منزل)، الحديث مع جارتها “مريم” فكلتاهما تتقاسمان الوجع وتشربان من ذات الكأس، فـ (إحسان) يعاني جميع أبنائها من السعال والنزلات بفعل استنشاقهم الدخان الناتج عن مصنع الزيوت.
إذن نحن في حي مايو جنوب الخرطوم والذي لم نقف على معاناة سكانه على التردي البيئي بل ألجمتنا الدهشة حينما رأينا تلاميذ المدارس يعتمدون في وجبة إفطارهم على “رؤوس الدجاج بالشطة “.
واقع متردٍّ
فضلت أن أتجول في الحي الشاسع راجلاً وذلك حتى أتمكن من تلمس الواقع عن قرب، وبدت لي المشاهد متقاربة إن لم تكن متطابقة، فالنفايات تتوزع على كافة المساحات، في الطرق، الأرصفة وبالقرب من المنازل ، سألت فاطمة وهي شابة عشرينية عن عربة النفايات، فجاء ردها غريباً: يبدو أنك لست من سكان هذا الحي، ومضت في حال سبيلها، لم أفهم فحوى حديثها، ولكن عثمان وهو تاجر في دكان صغير بدد حيرتي حينما أشار إلى أن عربة النفايات لا تأتي دائماً وأن السكان لم يعودوا يهتمون كثيراً بهذا الأمر وأن الكثير منهم يتخلصون من النفايات برميها في الطرق أو حرقها.
قصدت بعد ذلك السوق ورغم أنه كان ضاجاً بالحركة خاصة مواقع بيع الخضروات والفواكه، إلا أن سوق ستة بدا لي مثل المدرسة، وذلك لوجود أعداد كبيرة من الأطفال وهم يرتدون الزي المدرسي، وآخرون لا يبدو عليهم أنهم يرتادون المدارس، قال لي أحمد وهو مواطن أربعيني يعمل في سوق ستة منذ عشر سنوات كما أشار في بيع الخضروات أن عددا مقدراً من التلاميذ يقضون معظم يومهم في السوق وأن الذين تركوا مقاعد الدراسة امتهنوا العديد من المهن، وقال إنه يشعر بالأسف لضياع مستقبلهم، وحينما سألته من السبب أرجعه إلى عدم اهتمام الأسر بالتعليم بالإضافة إلى الفقر وتردي البيئة المدرسية.
التعليم والتردي
الأعداد المقدرة من التلاميذ الذين يتجولون في سوق ستة بالإضافة إلى الصغار الذين يمتهنون مهناً هامشية، دفعني للتوجه نحو عدد من المدارس لاستجلاء الحقيقة، ومعرفة أسباب هذا التسرب، فوجدت أنه رغم أن البنية التحتية للمدارس جيدة من ناحية الفصول والمكاتب وبنسبة متفاوتة الإجلاس مع ضعف واضح في البيئة المدرسية، غير أن مدير مدرسة أساس للأولاد “فضل حجب هويته” أرجع أسباب التسرب إلى أن الكثير من الحصص لا يتم إعطاؤها للتلاميذ بداعي النقص الحاد الذي تعاني منه معظم مدارس مايو في المعلمين كما أشار، وقال: في كثير من الأحيان نطلب من التلاميذ منذ وقت مبكر أي قبل انتهاء اليوم الدراسي التوجه إلى منازلهم وذلك لعدم وجود معلمين ومعظمهم يفضلون التوجه نحو السوق، وفي بعض الأيام لا يتلقى التلميذ سوى حصتين فقط من الحصص المقررة في الجدول بسبب النقص في المعلمين ، وفي تقديري أن هذه القضية تحتاج لتدخل عاجل من المحلية ووزارة التربية والتعليم بالولاية لأنها تشكل خطراً كبير على مستقبل الصغار.
مدارس طاردة
التلميذ النور تفاجأت به في صباح زيارتي الذي تزامن مع الحصة الثانية لليوم الدراسي وهو يتجول في سوق ستة سألته عن أسباب عدم ذهابه الى المدرسة رغم ارتدائه الزي الذي يميز تلاميذ الأساس، فأجابني ضاحكاً أن المدرسة أصبحت طاردة وأنه في كثير من الأحيان يذهب إليها ولكن لا يجدون من يعطيهم الدروس بداعي غياب الأساتذة وأن الكثير من الحصص تكون”فاضية”، سألته عن سبب وجوده في السوق فقال إنه وعدد كبير من التلاميذ يحضرون يومياً لشراء وجبة الإفطار التي وحينما تفحصتها جيدًا وجدت أنها عبارة عن “ساندوتش” مكونة من “رؤوس الدجاج المخلوطة”، وعلمت أنه بجنيهين فقط لذا فإن التلاميذ الفقراء يقبلون عليه، وكذلك يشترون أطعمة علمت أنها من متبقي المناسبات التي تقام في صالات الخرطوم .
أوضاع مزرية
النور علي آدم المعلم بالمنطقة يقول إن من أكبر مشاكل الحي تتمثل في المدارس التي أكد أنها ماتزال عبارة عن مبانٍ بلا معانٍ، وأضاف: يوجد نقص حاد في المعلمين ، لأن أغلبهم تركوا العمل واقتحموا السوق بداعي تواضع الأجور التي يتحصلون عليها، كما اشتكى من غياب الكتاب المدرسي الذي أشار إلى أنه فقال يمثل واحدة من العوائق التي تعتري طريق التعليم بالحي، إذ أن معظم الطلاب بلا كتب مما يصعب مهمتهم في التحصيل الأكاديمي، وقطع بأن كل الظروف تقف ضد التلاميذ بحي مايو في التطور والتقدم في التعليم، وكشف عن أن الإجلاس أيضًا يمثل عقبة حقيقية وأن الكثير من التلاميذ يحضرون الدروس وهم وقوف، ورأى أن هذا الأمر غير منطقي ولا يستقيم عقلاً، وناشد المسؤولين بضرورة رفع الهمة والارتقاء بالتعليم في المنطقة، فقال: أناشد المسؤولين بضرورة أن يضعوا في الاعتبار أن هؤلاء البشر هم خلق الله وتحت مسؤوليتكم وستسألون عنهم يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم لن يغني المؤتمر الوطني عنهم أمام الله شيئاً.
تجاهل
أحمد شاب ثلاثيني حينما علم بأنني صحفي بدا ناقماً على تجاهل الحكومة للحي الذي اعتبره واحداً من أكبر وأعرق الأحياء بالعاصمة، إلا انه والحديث لأحمد محروم من أبسط الخدمات، وأضاف: عبثاً يحاول أبناء مايو إيصال أصواتهم للمسؤولين، وإقناعهم للالتفات إلى (حيهم) المهمل دون فائدة، وهم لا يسعون إلى رفاهية الخدمات بل يطمعون في البسيط الذي يمكن أن تمن به عليهم السلطات المسؤولة وتشعرهم بآدميتهم المفقودة، وقال إن الذين يقطنون حي دار السلام يعانون كثيراً ليس بسبب الخدمات وحسب بل لأن الحكومة وافقت على إنشاء مصانع المواد الغذائية والزيوت والحديد بجوار مساكنهم، فأحالت عافيتهم مرضاً، وسكونهم ضجيجاً.
لا حياة لمن تنادي
بضع خطوات هي تلك التي تفصل منزل المواطن “أحمد ربيع” من مصنع الزيوت، الذي أنشئ بالقرب من منزله، فالرجل بدا لنا وكأن أعماراً أضيفت إلى عمره بعد أن أعياه التفكير في محاربة هذه المصانع وإزالتها، خاصة مصنع الزيوت الذي تنفث ماكيناته دخان الفيرنس الأسود، الذي تمتلئ به باحات منازلهم وصدورهم وتزكم به أنوفهم .
ويقول لـ(الصيحة): أنا أعتبر من قدامى ساكني هذا الحي، وجميع المصانع أنشئت في العام 2010، فكيف للسلطات أن تقوم بالتصديق للمصانع بجوار المنازل، ويضيف اشتكينا مراراً وتكراراً وهلكت حناجرنا وبحت أصواتنا ولكن لا حياة لمن تنادي.
وأضاف: كنا بكامل عافيتنا، وبمجرد إنشائه عرف المرض طريقه إلينا، ورغم أننا كثيراً ما سعينا إلى إزالته بواسطة الطرق الرسمية، إلا أن الدولة لم تلق لنا بالاً ولمعاناتنا، ولا ندري ماذا نفعل؟
تردي الخدمات
عدد من الأزمات وجملة من المشاكل والقضايا العالقة التي تؤرق سكان الحي، دفع بها ابن المنطقة”الرشيد آدم” وهو يسرد لنا معاناتهم التي لم يتركوا باباً إلا وطرقوه من أجلها، والتي تتسيد قائمتها المصانع المصدق لها، دون الأخذ في الاعتبار وضع السكان والآثار الصحية والبيئية المترتبة على ذلك، يقول الرشيد: المصانع باتت هماً كبيراً لنا ولا نعرف طريقاً لمحاربتها، ذهبنا في كل الاتجاهات ولا حياة لمن تنادي، ولم يتوقف الأمر عند المصانع، بل تعداه إلى تردي الخدمات للحي بأكمله.
مشاكل صحية
ورغم أن الكثير من الناس يجزمون بعشوائية حي دار السلام بمايو وهو الأكثر تضررًا من المصانع، إلا أن هذه المعلومة بحسب رئيس اللجنة الشعبية “عمار هاشم” ليست صحيحة، وقال: كثيرون يعتقدون ذلك، ولكن الحي عبارة عن تعويضات لأهالي منطقة مايو من قبل وزارة التخطيط العمراني، ولكن أكثر ما يثير تساؤلاتنا هو كيف يمكن للسلطات أن تمنح تصاديق لإنشاء مصانع مجاورة لسكن المواطنين، في الوقت الذي يعتبر المربع الذي أنشئت عليه هذه المصانع وهو مربع (35)، تعويضاً لمن تبقى من أهل مايو، فهل يمكن للحكومة أن تصدق بالمربع للمصانع ذات المخلفات الضارة؟ وتكتفي بأن تعوض ما بقي من مواطني مايو بشمال أم درمان؟
ومضى محدثي مؤكداً على أنه ليست لديهم غضاضة ناحية الصناعات الخفيفة، مثل المواد الغذائية، لافتاً إلى أن مشكلتهم تكمن في مصانع الزيوت والحديد، والتي بلغ الأمر معها مبلغاً جعلها قضية في أروقة المحاكم.
الأوضاع إلى الأسوأ
يقول “عمار”: رغم سعينا الحثيث وراء المسؤولين، إلا أن الأمر يسير نحو الأسوأ، فها هي السلطات نفسها تقوم بالتصديق لطلمبة بنزين بجوار مصنع الحديد، فكيف إذا تطايرت مثل هذه المقذوفات في الطلمبة وما هو الخطر المترتب عليها، وأضاف: هناك إهمال تام للمنطقة، لا توجد تنمية متوازنة مقارنة بيننا وشمال “الخرطوم”، ولا ندري ما هي الأسباب، فهل أرواحنا أصبحت رخيصة لهذا الحد، وهل المصانع أعلى قيمة من الإنسان؟
تساؤلات عدة أطلقها رئيس اللجنة الشعبية، بعد أن أعجزه البحث عن من يقدم للحي يد المساعدة، فلم تجدِ الشدة واللين نفعاً.
تخوفات وتهديد
حالة من الخوف في عيون المواطنين لاحظتها (الصيحة) وهي تستمع لمعاناتهم، فقد بدا أغلبهم خائفاً ومتخوفاً من حديثه لأجهزة الإعلام، وبدا ذلك جلياً بعد رفض بعضهم المشدد للحديث أو الإفصاح عن هويته، وخاصة الأستاذة، معلمة بمدرسة الأساس، التي رفضت التصريح للصحيفة متذرعة بتلقيها تهديداً من إحدى الجهات بعدم التصريح لأي جهة ما، وذهبت وتركتنا، وقد تأكد لنا أن المواطن في تلك المنطقة مغلوب على أمره.
الصيحة