تحقيقات وتقارير

فصل المقال في حكاية المراقب المُقال قصة المسؤول الذي عطّل أجهزة أعلى منه قانونياً!

كتبت في هذه الصحيفة الغراء في الحادي عشر من رمضان الماضي 1437هـ تعليقاً على قرارات أصدرها المراقب المُقال الشيخ علي جاويش في السادس من رمضان من نفس العام أن تلك القرارات لا تنقصها سوى الموسيقى العسكرية لتصبح انقلابًا عسكرياً كامل الدسم!!
وبعد حوالي ستة شهور من تلكم القرارات؛ أصدر المراقب المُقال بياناً في السادس عشر من ربيع الأول 1438هـ؛ أظن أن الوصف المناسب لهذا البيان أنه لا تنقصه سوى الموسيقى التصويرية، مع بعض الاجتهادات، ليكون مسرحية جاهزة للعرض. فقط النقاد سيحتارون في تصنيفها، ويجتهدون في توصيفها؛ هل هي كوميدية أم تراجيدية؟ مأساة أم ملهاة؟ وهل ستنتمي إلى مسرح العبث؟ أم المسرح التجريبي؟ أم مسرح اللامعقول؟ ولنترك جانباً النقاد واجتهاداتهم.. ولنبدأ الحكاية من أولها.
التآم بعد انقسام
قبل ربع قرن من الزمان بالضبط؛ حدث انشقاق في جماعة الإخوان المسلمين في السودان إثر المؤتمر العام الذي انعقد عام 1991م، وتكونت مجموعتان للإخوان في السودان إحداهما بقيادة الشيخ سليمان أبو نارو -رحمه الله- والأخرى بقيادة الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد. ولم تلبث مجموعة شيخ أبو نارو أن عقدت مؤتمراً عام 2003م عزلت بموجبه الشيخ أبونارو من قيادة الجماعة، فقام أبونارو بتكوين جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة العام 2004م؛ فتحولت الجماعة بذلك لمجموعتين تحملان اسم الإخوان المسلمين؛ الأولى كانت بقيادة الشيخ صادق عبد الله (1991-2008م) ثم بقيادة د. الحبر يوسف (2008-2012م) ثم بقيادة الشيخ جاويش (2008-ـ2016م)؛ والأخرى تميزت باسم الإخوان المسلمين الإصلاح كانت بقيادة الشيخ جمال الطيب (2003-2007م) ثم بقيادة الشيخ ياسر عثمان جاد الله (2007-2011م) ثم بقيادة الشيخ صديق علي البشير (2011-2016م). وبعد عزل الشيخ أبونارو دخلت المجموعتان في مفاوضات شاقة وطويلة ومعقدة من أجل الوحدة؛ إلى أن أقر مجلساً الشورى في الجماعتين تفاصيل الوحدة التي تم إعلانها من على منبر وكالة السودان للأنباء (سونا) في السادس عشر من يناير 2016م، وخاطب المؤتمر الشيخ على جاويش المراقب العام للإخوان والشيخ صديق علي البشير أمير الإخوان المسلمين الإصلاح، وأعلنا اندماج المجموعتين في جماعة واحدة وفق اتفاق محدد حلت بموجبه جماعة الإخوان المسلمين نفسها وتم تمثيل عدد مقدر من قياداتها بأجهزة الجماعة الرئيسة في المكتب التنفيذي ومجلس الشورى وبقية الأجهزة القيادية، مع الاتفاق على اندماج القاعدة اندماجاً كاملاً.
من السرد المختصر السابق لمسيرة الإخوان المسلمين في السودان؛ تتضح عدة حقائق مهمة، من أهمها حقيقتان:
الحقيقة الأولى أن الإخوان المسلمين درجوا على تغيير قياداتهم عبر المؤتمرات العامة التي تعقدها الجماعة بانتظام، وقواعد الجماعة تمارس حقها الذي كفله الدستور. والحقيقة الثانية أن الإخوان في السودان قد حققوا وحدة سلسة في وقت كانت المجموعات الدعوية والسياسية في السودان تتعرض للانشقاق والتشظي.
يا فرحة ما تمّت
مضت عملية وحدة الإخوان المسلمين في سلاسة وبصورة متفق عليها، وانعقدت حوالي ثلاثة مجالس شورى وأكثر من اثني عشر اجتماع مكتب تنفيذي في الفترة من يناير إلى أوائل يونيو 2016م.
ولكن فجأة وبدون أي مقدمات أصدر المراقب العام المُقال الشيخ جاويش بيانًا في السادس من رمضان 1437هـ الموافق الحادي عشر من يونيو 2016م؛ وبعد مقدمة طويلة تحدث فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن البنا، وبن باديس، والشوكاني، ومحمد بن عبد الوهاب؛ ثم الحديث عن محاولات الاستيلاء عن الجماعة وصرفها عن منهجها، والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ومحاولات البعض تحويل الجماعة إلى حزب سياسي – مسألة محاولات تحويل الجماعة إلى حزب سياسي فيها نكتة (أقصد نقطة) سنعود لها لاحقاً- وتجاوز القانون الأساسي للجماعة واللدغ من الجحر ثلاث مرات .. إلخ، قال بيان المراقب العام المُقال: (بعد مشاورة بعض قيادات الجماعة وعلى رأسهم الأب الروحي للإخوان المسلمين الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد وإخوانه من القيادات التاريخية رأيت أن أتخذ من الخطوات ما يحفظ للجماعة كيانها وتماسكها ويصرف عنها ما يراد بها بحكم مسؤوليتي في الحفاظ على الجماعة وحمايتها من أن تتعرض مرة أخرى لما تعرضت له فى الماضي.. فقررت الآتي:
1/ قررت تعطيل المؤتمر المزمع عقده بعد عيد الفطر.
2/ تعطيل الأجهزة القائمة بما فيها مجلس الشورى والمكتب التنفيذي واللجان التابعة لهما.
3/ دعوة الإخوان المسلمين أن يقفوا صفاً متراصاً للحفاظ على الجماعة وتشكيل مجموعة تتولى مواصلة العمل والتوجيه بالخطوات المناسبة من الأفراد الآتية أسماؤهم ليكونوا مع المراقب العام في إدارة العمل).
ثم ذكر نفراً ممن عيّنهم، بعضهم سقط في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشورى، وبعضهم سقطوا في انتخابات المكتب التنفيذي، وبعضهم لم تتم مشاورته أصلاً، ولاحقاً أعلن الشيخ صادق عبد الله براءته من هذه القرارات وأوضح في بيان أنه لا علم له بهذه القرارات قبل صدورها. (تذكروا هنا أيضاً أن المراقب العام المقال تحدث عن تعطيل مجلس الشورى لأنه سينكر وجود مجلس الشورى أصلاً كما سنرى لاحقاً)!!
الأمور إلى نصابها
هل وقفت الحكاية عند هذا الحد؟ لا تتعجلوا لم يزل في الرواية ما يستحق أن يُروى في هذه العجالة إلى أن يهيئ الله من يفصّل لاحقاً إن شاء الله.. أي شخص له أدنى علم وأقل معرفة بموضوع الدساتير والأسس التي تحكم سير الجماعات المنظّمة؛ يدرك من أول وهلة أن الجهاز الأدنى لا يمكن بأي حال أن يحل الجهاز الأعلى، وأن الأقل مرتبة لا يمكن أن يتطاول ليعطل من هو أعلى مرتبة، وحسب القانون الأساسي الساري للإخوان المسلمين في السودان؛ فإن ترتيب الأجهزة من الأعلى للأدنى كالتالي: المؤتمر العام، يليه مجلس الشورى، يليه المكتب التنفيذي والمراقب العام. والمؤتمر العام ينتخب مجلس الشورى، ومجلس الشورى ينتخب المكتب التنفيذي (وبعضه يأتي بالانتخاب من القواعد وفق أسس معينة) والمراقب العام.
هل أدركتم الآن حجم الغرابة ودرجة العجب؟ حسب القانون الأساسي الساري للإخوان المسلمين لا يمكن بحال للمراقب العام أن يعطل المؤتمر العام ومجلس الشورى ويقوم بتعيين مكتب تفيذي لإدارة العمل؛ لأنه ببساطة هذه الأجهزة أعلى منه في الترتيب الإداري.
ماذا فعل الإخوان المسلمين إزاء هذه الكارثة الإدارية التي لم يسبق لها مثيل في تاريخهم منذ أول مؤتمر عام للإخوان المسلمين في السودان في أغسطس عام 1954م؟ تصرفوا بما يقتضيه العقل في مثل هذه الحالات: أولاً طلب شيوخ الجماعة التاريخيين وبعض قادتها الحاليين من المراقب العام التراجع عن هذه القرارات، ولما أصر المراقب العام على قراراته؛ قام الإخوان المسلمون بالرجوع إلى الجهاز الذي يمكنه -حسب الدستور- انتخاب وعزل المراقب العام، وهو مجلس الشورى، حيث دعا رئيس مجلس الشورى لجلسة طارئة للمجلس انعقدت بعد ثلاثة أيام من قرارات المراقب العام، وانتظم المجلس في التاسع من رمضان 1437هـ بمنزل الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، وبعد مداولات واسعة استمرت من العصر إلى منتصف الليل أصدر المجلس قراراته، وننقل فيما يلي من بيان مجلس الشورى الذي أصدره في العاشر من رمضان 1437هـ الموافق الخامس عشر من يونيو 2016م: (وقد عقد مجلس الشورى جلسة طارئة مكتملة النصاب وذلك مساء الثلاثاء 9رمضان 1437هـ الموافق له 14 يونيو 2016م، وذلك لمناقشة بيان المراقب العام الذي عطل بموجبه المكتب التنفيذي ومجلس الشورى وألغى قيام المؤتمر العام المقرر سلفاً من أجهزة الجماعة مما يعد خرقاً للقانون الأساسي للجماعة وتجاوزاً سافراً للصلاحيات الممنوحة للمراقب العام في القانون وتعدياً على أجهزة الجماعة الرئيسية، وبعد مناقشة المجلس لهذه القرارات وتداعياتها السالبة وباعتبارها سابقة في تاريخ الجماعة، كان لا بدّ من اتخاذ قرارات حاسمة وحازمة تجاهها، وكان على المجلس اتخاذ كافة الإجراءت اللازمة لحماية مؤسسات الجماعة وحقوقها، وعليه أصدر المجلس في اجتماعه التاريخي هذا القرارات التالية:
أولاً: إعفاء فضيلة الشيخ علي محمد أحمد جاويش من منصب المراقب العام للجماعة.
ثانيا: اختيار الشيخ الدكتور الحبر يوسف نور الدائم مراقباً عاماً إلى حين انعقاد المؤتمر العام للجماعة.
انعقد إذن مجلس الشورى ومارس حقه الذي نص عليه القانون الأساسي الساري للجماعة، وأرجع الأمور إلى نصابها، وقبل أن نغادر هذه المحطة نورد بعض ما خطه يراع المهندس الطيب مصطفى بهذه الصحيفة بالصفحة الأخيرة يوم 27 أغسطس الماضي 2016م : (دهشت والله العظيم لما أقدم عليه الشيخ علي جاويش الذي شق جماعته لسبب أراه تافهاً مهما كانت مسوغاته.. دهشت أن يفعل ما فعل انحيازًا لنفسه التي بين جنبيه رغم عمر طويل قضاه في مدرسة تكبح جماح النفس الأمارة وتزأر بآي القرآن ليل نهار وصباح مساء : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) إلى أن يختم بقوله : (والله لو كنت مكان جاويش لما لطخت تاريخي بإحداث انشقاق يحسب عليّ ويؤثر في مسيرة الجماعة سيما وأن الطرف الآخر الذي خرج عليه جاويش يضم شيخ صادق عبد الله عبد الماجد بثقله المعلوم في تاريخ الجماعة والذي يصعب على من يخاصمه أن يحظى بالقبول).
مجلس الأحزاب على الخط
بعد أسبوع واحد من إقالة مجلس الشورى لشيخ جاويش من موقعه كمراقب عام للجماعة؛ تقدم رئيس مجلس الشورى الشيخ عمر حسن سيد أحمد بالتماس إلى مجلس شؤون الأحزاب السياسية يطلب إلغاء قرارات المراقب العام المقال.
جاء في بيان صادر عن مجلس شؤون الأحزاب السياسية بتاريخ 8/8/2016م وبتوقيع رئيس المجلس عثمان محمد موسى فيما يتعلق بالطلب الآتي:
3. بتاريخ 11 يونيو 2016م أصدر المراقب العام قرارات قضت بحل جميع أجهزة الحزب المنتخبة من المؤتمر العام المتمثلة في مجلس الشورى والمكتب التنفيذي كما قام بإلغاء قيام المؤتمر العام للحزب.
4. قام المراقب العام بتعيين لجنة لمساعدته في تسيير وإدارة عمل الحزب متجاوزاً في ذلك الصلاحيات الممنوحة له من نظام دستور الحزب. نحن إذن بإزاء ممارسة قانونية وحضارية؛ رئيس مجلس الشورى دعا مجلس الشورى للانعقاد؛ وبعد حوالي أسبوع قام بمخاطبة الجهة الرسمية في الدولة المخول لها التعامل مع هذه الحالة.. قام المقدم ضده الطعن (المراقب العام المقال) بإيداع مذكرة للرد بواسطة محاميه الأستاذ علي السيد المحامي.. فماذا جاء في الرد؟
جاء في الرد حسب بيان مجلس شؤون الأحزاب المشار إليه آنفا بتاريخ 8/8/2016م الآتي:
1. يتكون هيكل الحزب من الهيئة التأسيسية، والمكتب التنفيذي، وذلك وفقا للنظام الأساسي، حيث لا يوجد ما يسمى بمجلس الشورى الذي ادعى مقدم الطعن بأنه رئيسه، وفقاً لنص المادة (9) من النظام الأساسي فإن الهيئة التأسيسية تمثل السلطة العليا للحزب وقراراتها ملزمة لجميع أجهزة الحزب استناداً لنص المادة (12) من النظام الأساسي.
هنا هل تذكرتم ما نبهتكم إليه آنفاً من أن المراقب العام المقال سينكر وجود مجلس الشورى أصلاً؟ وفي أوراق رسمية؟ إذن ما الذي تم حله بقرارات السادس من رمضان 1437هـ الصادرة من المراقب العام المقال شخصياً؟
تتوالى الحكايات العجيبة في رد المراقب العام المقال حسب ما جاء على لسان محاميه الذي قطعا لن يتصرف دون علم موكله. جاء في الرد المشار إليه آنفاً: (أنكر المراقب العام قراره بحل الأجهزة المنتخبة من المؤتمر العام السابق وأيضاً بأنه قام بإلغاء الأجهزة الموازية التي ابتدعها السيد/ عمر حسن سيد أحمد وآخرون) هاهنا نحن أمام رئيس مجلس شورى (مبتدع) لأنه طالب بإلغاء قرارات أصدرها المراقب العام بالمخالفة للقانون الأساسي للجماعة!! ثم جاءت الطامة في رد المحامي علي السيد – وبعلم من موكله طبعاً- إذ جاء ما نصه
5. اعتبر الشاكي أن اللقاءات والمشاورات خارج إطار المؤسسات الرسمية للحزب قرارات حزبية والصحيح أنها لقاءات تفاكرية وتشاورية من أجل البقاء على جسد الحزب من الاختراق لوجود أعداء يسعون لهدمه). هل تذكرتم ما نبهتكم إليه أيضاً آنفا من نكتة -أقصد نقطة- الحزب؟ المراقب العام المقال في بيانه في السادس من رمضان يتحدث عن مجموعة تريد تحويل الجماعة إلى حزب؛ ثم ها هو يدافع عن الحزب -الذي أنكر مجرد التفكير فيه- ضد من يسعون لهدمه ممن سماهم بأعداء الحزب!!
هل نقوم بتذكيركم مرة أخرى بمسرح العبث واللامعقول؟؟ وإزاء هذه الردود العجيبة من المحامي وموكله المراقب العام المقال، أصدر مجلس شؤون الأحزاب قراره بتاريخ 8/8/2016م برفض الطعن، وإخطار الأطراف!!
لحن الختام
نقوم ختاماً بتلخيص أهم ما ورد في هذه المسرحية -أقصد الحكاية- فقد قام المراقب العام المقال الشيخ علي جاويش بإصدار بيان في السادس من رمضان 1437هـ قرر فيه ضمن ما قرر، تعطيل مجلس الشورى، وتعيين إدارة جديدة، وبعد ثلاثة أيام انعقد مجلس الشورى وأصدر قراراً بإقالة المراقب العام لأنه تجاوز صلاحياته، وبعد أسبوع خاطب رئيس مجلس الشورى مجلس شؤون الأحزاب السياسية ملتمساً إلغاء قرارات المراقب العام المقال، ردّ المراقب العام -عبر محاميه- بأنه لا يوجد مجلس شورى أصلاً!! وأن رئيس مجلس الشورى مبتدع لهذا الجهاز!! وزاد كيل بعير بأنه -أي المراقب العام المُقال- يسعى للحفاظ على الحزب من الاختراق، وهو من اتهم في بيان السادس من رمضان الآخرين بأنهم يسعون لتحويل الجماعة إلى حزب!!
عموماً لم نقم -لضيق الحيز المتاح – بالرد على بيان المراقب العام المُقال الذي أصدره في السادس عشر من ربيع الثاني 1438هـ، فتلك مسرحية أخرى.. تصبحون على خير.

الصيحة