القطن يتغيَّب والقمح يتراجع وحضور “الكبكبي” و”العدسية” مشروع الجزيرة.. المزارعون يلجأون إلى المحاصيل البديلة
قنوات ري جفت عنها المياه.. 1850 من بوابات الترع تمت سرقتها.. المزارعون أداروا ظهورهم للمحاصيل النقدية مثل القطن والذرة والقمح .. وللمفارقة فقد استعاضوا عنها بزراعة الكبكبي والعدسية، سألنا بعضاً منهم لماذا، أكدوا أن أرباحها مجزية.. لم يكتفوا بذلك بل جأروا بالشكوى من العطش وضعف التمويل.. إذن نحن في أكبر مشروع مروي بأفريقيا، كان وكان وكان، أما الآن فهو قد دخل في سبات عميق أو أنه على بعد خطوات من التلاشي.
تميز وريادة
حتي وقت قريب كان المزارعون بمشروع الجزيرة يعتقدون أن أقسام المناقل والشمالي هي الأكثر حظاً من غيرها في مشروع الجزيرة، لما كانت تجده من عناية فائقة ورعاية من إدارات الري ومشروع الجزيرة، وذلك لوجود شخصيات مؤثرة كانت تقف على رئاسة اتحادات المزارعين، وذلك من لدن عهد الفقيد الشيخ الطيب العبيد الذي تولى رئاسة الاتحاد منذ العام 1971م، ولمدة قاربت الثلاثين عاماً، ثم خلفه من ذات الأقسام الشمالية الشيخ عباس عبد الباقي الترابي، وبالمقابل برزت المناقل كمنافس كبير على إدارة الاتحاد بعد تولي صلاح الدين المرضي منصب أمين مال اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة، ومن ثم رئيساً لاتحاد مزارعي السودان، وهذه الوضعية التي تشكلت منها قيادة اتحاد المزارعين السابق، وإذا ما أضفنا إليهم الشيخ الأمين أحمد الفكي والذي ينتمي أيضاً لأقسام المناقل وتحديداً قسم الهدى، نجد أن أدوار الاتحاد الرئيسية كانت تتوزع ما بين المناقل والشمالي.
الواقع يتغير
وقياسا على هيمنة القسم الشمالي والمناقل على إدارة اتحاد المزارعين، فإن أوراق الماضي توضح أنه وعندما بدأت تظهر على السطح ملامح العطش وشح المياه قبل سنوات ببعض الترع ونهايات الحواشات في مزارع مشروع الجزيرة ، كانت أقسام المناقل والشمالي تنعم بإمداد مائي مستقر وكان المزارعون في بعض مناطق الوسط ينظرون إلى المياه تنساب شمالاً، بينما كانت مزارعهم وحواشاتهم تعاني العطش في بعض فصول السنة، إلا أنه وبعد أن دارت دورة الأيام فقد تفاقمت الأزمة، ولم تعد تلك الأقسام تُصنَّف بالمحظوظة على إثر توسع رقعة العطش لتشمل كل أقسام المشروع بما في ذلك تلك الأقسام التي كان يطلق عليها المزارعون في الجزيرة الأقسام (المدلّلة)، فانسدت الترع ، وتراكم الطمي، وسرقت الأبواب، إلى أن صدر قرار سابق من نائب رئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه بتحويل الري إلى مشروع الجزيرة، ولم يمض على ذلك القرار سوى بضع سنوات لتصدر الرئاسة قراراً بإعادة إدارة الري لوزارة الري والموارد المائية مرة أخرى العام الماضي.
الأزمة تطل برأسها
حسناً.. فقد ربطنا الماضي بالحاضر، دعونا نتوسع أكثر ونترك أزمة مياه الري في مشروع الجزيرة لنعود إليها لاحقاً ونتصفح أوراق الموسم الشتوي، وهنا نشير إلى أن نجاح الموسم السابق أسهم في إقبال المزارعين على زراعة محصول القمح بشهية كبيرة ومفتوحة، وذلك استجابة للمطالبات المتكررة للدولة الرامية لتوطين زراعة القمح، بجانب الجدية التي لمسها المزارعون من خلال تمويل المواسم السابقة، عبر إدارة المشروع، والبنك الزراعي السوداني، والمزارع التجاري، ومؤسسة الجزيرة للتمويل الأصغر، كل هذه العوامل بجانب الإعلان عن السعر التركيزي لأسعار القمح حفزت المزارع للإقبال على زراعة القمح خصوصاً وسط زيادة الإنتاجية الرأسية لهذا المحصول والتي وصلت في بعض المناطق إلى (30) جوالاً للفدان.
أرقام وتفاؤل
من جانبها طرحت إدارة مشروع الجزيرة خطة زراعة (500) ألف فدان قمحاً بمشروع الجزيرة، وأشار تقرير محافظ مشروع الجزيرة والذي قدمه في اجتماع اللجنة العليا لإنجاح الموسم الزراعي بمشروع الجزيرة برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية بكري حسن صالح عن إعلان إدارة مشروع الجزيرة عن زراعة (500) ألف فدان بمحصول القمح لموسم (2016م ــ 2017م) تمت زراعة (237) ألف فدان منها بواسطة الإدارة وما تم تمويله منها (235) ألف فدان ويبلغ العجز (38) ألف فدان، لافتًا لوجود مساحة تبلغ (159) ألف فدان من جملة (432) ألف فدان ينتظر أصحابها التمويل من البنك الزراعي، كاشفاً عن أن بنك السودان رهن أصول مشروع الجزيرة مقابل تمويل بعض المساحات الزراعية.
العقدة أمام المنشار
نعم.. فقد رسم محافظ المشروع صورة وردية للموسم الشتوي حينما كشف عن المساحات المستهدف زراعتها، غير أنه انتقل في خطابه ذلك إلى الوجه الثاني للصورة حينما أكد وجود عدد من الصعوبات التي تواجه الموسم الشتوي أهمها تأخير انسياب التمويل للمزارعين، إهلاك طلمبات حداف وود الفضل، وتدني كفاءة الطلمبات والتي ظلت تعمل لأكثر من (50) عاماً، بجانب تهالك عربات المشروع التي أكد أن 50% منها مؤجرة.
أقل ربحية
لنعُد مجدداً لأزمة الري بمشروع الجزيرة التي يؤكد الكثير من المزارعين أنها السبب المباشر للتردي الذي حاق بأكبر المشاريع المروية في أفريقيا، وهذه الحقيقة كشفتها زيارتنا إلى عدد من التفاتيش والأقسام، ومنها ود النو بالقسم الأوسط الذي اكتشفنا أنه ظل منذ أكثر من (15) عاماً أو تزيد قليلاً عصياً على زراعة محصولي القطن والقمح بترعتي البيارة والشريف الواقعتين بتفتيش ود النو.
وهنا يرجع المزارع معاوية الطيب عبد الرحيم، المزارع بترعة الشريف الدسيس عدم زراعة القطن والقمح إلى مشاكل المياه التي ظلت تعاني منها المنطقة، حيث تنعدم الضمانات والتمويل لتلك المحاصيل، بجانب تخوّف المزارعين من الخسائر بسبب شح المياه وانعدامها في بعض المناطق، وأشار معاوية إلى أن السياسية التي انتهجتها الحكومة مؤخراً جعلت المزارعين يلجأون لزراعة بعض المحاصيل الأقل تكلفة والأكثر ربحية، مثل الكبكبي واللوبيا اللذين يفوق جوالهما ال،(2300) جنيه لجوال الكبكبي و(1200) جنيه لجوال العدسية، بينما تم تحديد سعر التركيز لجوال القمح بـ(400) جنيه، وهو قليل مقارنة بعائدات بعض المحاصيل، بجانب أن الدولة أعلنت سياسات اقتصادية ارتفع بموجبها سعر العملات الأجنبية وبخاصة الدولار مما يعني أن هذه القيمة تتضاءل أمام ما أعلنته الدولة من سياسات لم تكن أصلاً في صالح المزارع وزيادة الإنتاج، وبخلاف ذلك نجد أن الدول التي تتبع سياسة الاقتصاد الحر مثل الولايات المتحدة الأمريكية تدعم المحاصيل بالنسبة لها، وهي تدعم حوالي (19) محصولاً زراعياً، بينما تريد وزارة المالية من بنك السودان والبنوك التابعة له تكبيل المزارعين، وحتى التمويل الذي تقوم بدفعه للمزارعين يأتي متأخراً مما يدخل المزارعين في حرج كبير ويتسبب بالتالي في خسائر كبيرة لهم، يجب أن يعيد المسؤولون في الدولة الثقة للمزارع بإيجاد آليات تضبط الغيط والري من خلال إدارتي المشروع والري بجانب المؤسسات المالية التي غالباً ما تتأخر في دفع التمويل.
مأساة أخرى
أزمة مياه الري لا تنحصر على قسم محدد بمشروع الجزيرة فأينما توجهنا وجدنا المزارعين يجأرون بمر الشكوى من هذه الأزمة، وهذا ما أكده عبد الله عبد القادر محمد ــ المزارع بقسم الهدى (مكتب قوز الرهيد 93)، الذي يعيدنا بحديثه إلى ما جهر به محافظ المشروع حول الموسم الشتوي، فقد أشار المزارع عبد الله إلى أنهم زرعوا أخيرًا محصول القمح، إلا أن ازمة الري واجهتهم وذلك لانعدام المياه في ترعة عامرة شرق وغرب، والرهيد من 1 إلى 6 غرب، بجانب ترعة الرهيد شرق، لافتاً لانعدام المياه بعدد من الترع بالقسم رغم أن المزارعين أكملوا كل عمليات والتحضير، وبدا المزارع الأربعيني متحسراً على المرحلة التي وصل إليها المشروع.
مربع التنظير
تواصلت جولتنا في عدد من أقسام الجزيرة، والملمح العام المشترك الذي لا يبدو خافياً حالة العطش التي ضربت “الحواشات”، وتبدو أكثر وضوحاً في قنوات الري التي وجدنا مزارعين في بعض التفاتيش يعملون على نظافتها وفتحها.
وصلنا إلى القسم الشمالي الغربي الذي كان إلى وقت قريب يعتبر من الأقسام ذات الإنتاجية العالية في كل المحاصيل، إلا أن المتغيرات التي حدثت في نظام الري أذهبت عنه ميزة التميز، وهذا ما يشير إليه المزارع بشير يوسف البله ــ بتفتيش السديرة، والذي قال إن الري بات من أبرز أزمات مشروع الجزيرة التي تسبب أرقاً للمزارعين، وأشار البلة إلى أن الموسم الحالي تعتريه بعض المشاكل أهمها وضع الإمداد المائي المتعثر، وتأخير المدخلات الزراعية، كما أن الزراعة تمت في وقت واحد، وكشف عن أن محصول القمح يحتاج لـ8 “ريات”، وأردف غاضباً : بدلاً من توظيف المسؤولين نجاح الموسم الماضي حتى يسهم في تحقيق إنتاجية عالية هذا الموسم فإنهم عززوا السلبيات وأضعفوا الإيجابيات، وفي اعتقادي كان يجب تعزيز الإيجابيات بمعالجة مشكلة الري قبل حلول منتصف شهر نوفمبر.
عقبات ومتاريس
ويمضي المزارع بشير يوسف البلة في قوله مشيراً إلى أن الموسم الحالي للقمح اعترته بعض المشاكل في الري وتأخير التمويل، وأضاف: الكثيرون لم يزرعوا بسبب ذلك التلكؤ، وكان الأولى أن تكون نجاحات الموسم الماضي دافعاً وتحفيزاً لهم، ولكنهم لم يهتموا بهم، وهذا أثبت فشل الإدارة والري والمؤسسات الممولة بوزارة المالية، والمشكلة أن الدولة غير قادرة ولم تتعدَّ مربع التنظير، وفي تقديري أن دور الإدارة أن تسعى منذ وقتٍ باكر لإزالة العقبات، والدولة مهمتها تسهيل كل مطلوبات الإدارة والري وتسخير السبل التي من شأنها إنجاح الموسم الزراعي.
بدائل جديدة
مشروع الجزيرة الذي اشتهر تاريخياً بإنتاج القطن والذرة، لم يعد كذلك، وهذا ما وقفنا عليه في القسم الجنوبي بالحاج عبد الله وأكده المزارع بشرى الأنصاري الذي أرجع تراجع المساحات المزروعة من القمح عن الموسم الماضي، إلى التكلفة العالية للمدخلات الزراعية، بجانب إعلان البنك الزراعي لسعر التركيز بمبلغ متواضع وغير مجزٍ، وهو 400 جنيه للجوال زنة 100 كيلو، علماً بأنه في السوق يباع بأكثر من 430 جنيهاً، بجانب أن هناك الزكاة على الجوال الواحد بلغت سبعة عشر جنيهاً، ولفت إلى لجوء المزارعين لبدائل أخرى بخلاف القمح، حيث اتجه لزراعة الكبكبي والفاصوليا والعدسية، وهذه المحاصيل تباع بأسعار مجزية، كاشفاً توقف الزراعة في 11 نمرة لم يزرع المزارعون فيها محاصيل في العروة الشتوية بسبب طلمبات الري الجديدة التي كان من المفترض أن يتم افتتاحها بحسب المعلومات الواردة إلينا يوم 11/12 ولم تفتتح حتى الآن، وهي ترع حلبي، كريته، سكل شرق وغرب.
إرجاع المهندسين
ولما كان الري يمثل واحداً من أهم العوامل التي تقوم عليها العملية الزراعية والتي يعتبرها المزارعون من أكبر العقبات في الوقت الراهن، وهذه المعضلة وضعناها على منضدة وكيل وزارة الري والموارد المائية المهندس حسب النبي موسى، الذي أشار إلى أن الوزارة استلمت مكون الري من وزارة الزراعة والغابات، وبدأت في توفير الإمداد المائي لكل المشاريع القومية، وهي الجزيرة والمناقل، الرهد، السوكي، وهيئة حلفا الجديدة الزراعية، مشيراً في حديثه لـ(الصيحة) إلى أن الإدارة شكّلت عدة لجان لتطوير وتقوية منظومة الري، مهامها توفير المياه وتطهير القنوات وصيانة الأبواب والمنظِّمات، ولفت إلى أن انطلاقتهم كانت بإرجاع نظام الري القديم في مشروع الجزيرة في 23 قسم ري، وأضاف: وفي يوم 1/1/2016م وزعنا العربات للمهندسين والأقسام حتى يتمكنوا من فتح مكاتبهم ومنازلهم لأن الفترة الماضية كان الوضع الإداري يختلف عن نظام الري، ووزارة الري وفّرت الدفعة الأولى من العربات حتى يتمكن المهندسون من المتابعة، وإرجاع المهندسين إلى منازلهم، وهذه المكاتب هُجرت لفترة لا تقل عن 5 سنوات، ومن خطة الوزارة بدأنا في تأهيل وصيانة هذه الأقسام وبدأنا بخمسة أقسام من أقسام الري وهي قرشي، البساتنا، المسلمية، ودالنو، والحاج عبد الله، بصيانة كل مكونات المكاتب من مكاتب الإدارة والقناطر حتى نتمكن من مراقبة وتوزيع المياه، وفي الجزيرة لدينا 73 نقطة مهندس للمستوى الأدنى لضبط وتوزيع ومراقبة القنوات الصغرى، إضافة لذلك طلب وزير الري إضافة مكتب آخر بالمناقل، وتأهيل مكاتب الرئاسة، وتأهيل محطة طلمبات الحاج عبد الله، وهي محطة تروي مساحة 10 آلاف فدان، وسيتم افتتاحها عند زيارة رئيس الرئيس الجمهورية للولاية، بالإضافة لمراجعة قوانين الري والصرف واللوائح بواسطة وزارة العدل حتى نتمكن مؤسسياً من إدارة الري بإصدار اللوائح وضبط المياه بعدالة، ومنذ بداية هذا العام تمت صيانة كل الطلمبات بمشروع الجزيرة ومشروع الرهد، وتمت إعادة توزيع العاملين بالوكالة على كل أقسام الري لأنهم كانوا متوقفين نحو 5 سنوات.
استعداد تام
ويواصل وكيل وزارة الري حديثه عن أزمة الري بالجزيرة، ويقول إنه من جملة 3000 عامل بوابة بالمشروع انخفض العدد إلى مائة فقط، وأكد وكيل وزارة الري استعدادهم بنسبة 100% للدخول في العروة الشتوية مما هو متاح لنا من معينات والري، وقال إن تأهيل المصارف بمشروع الجزيرة يحتاج إلى (450) مليون جنيه سوداني، وأضاف: لابد من إعادة هذه المصارف والقنوات وتأهيلها من جديد وإرجاعها لطاقاتها التصميمية، وأقر وكيل الري بالتأثير الكبير لقانون 2005م على بنيات الري ما دفع الحكومة لتعديله في 2014م، ولفت إلى أن الهدف الأساسي هو إعادة شبكة الري لحالتها التصميمية، واكد أن بعضها يحتاج لتصميم جديد، كاشفاً عن أن بعض القنوات سيتم مسحها لخروج مساراتها، وتحولت إلى حفائر وميعات، مؤكداً سعيهم لإزالة كل التشوّهات، وقال إنهم بحاجة إلى التدرج والتعاون مع كل شركاء الإنتاج لنعالج هذه المشاكل، وأضاف: آلية الخفراء كانت آلية غير ناجحة ونسعى لتوفير آلية جديدة لضبط الحقل، وقمنا بتعيين ما لا يقل عن 3000 عامل باليومية في المشاريع الأربعة بعقود من 1/7 وحتى 31 /12 أشبه بالنظامية للحفاظ على الممتلكات ولها من القوة ما يعادل قوة الشرطة، كاشفاً عن فقدان وسرقة 1850 باباً بمشروع الجزيرة، وقال إن الأبواب الجديدة فُقد بعضها بشمال الجزيرة.
الصيحة