رأي ومقالات

من حقيبة الذاكرة.. انقلاب المقدم حسن حسين.. قصة طريفة

كان الجو حارا وكنا فی عز الصيف .. الأرض جرداء لا عشب ولا نبات .. الترع ما بها من ماء تحولت الی برك آسنة .. بتراءی أمامنا السراب الذي يحسبه الظمان ماء .. بضع رمم لحيوانات متيبسة متناثرة علی طول الطريق هنا وهناك .. أكثر ما لفت نظری واستوقفنی وانا لم اتجاوز السابعة من عمری ، حينها منظر أعمدة التيلفون واصطفافها والطيور ترك علی اسلاكها .. كنت سعيدا وفي غاية السعادة وانا اتفرج علی هذه الطبيعة الموحشة القاسية .. وكلما توقفت عربة اللوری لتقل آخرين صاح الناس وتزمروا واشتكوا من شدة الحر ولهيبها .. إلا أنا الذي اجلس فی قمرة القيادة بقرب السائق وصاحب النعمة الجلابی ، مستمتعا بالنظر والتفرس فی كل شيء …

تجاوزنا حدود المشروع والعربة تثير الغبار والدك وتنهب الأرض نهبا وعند آخر قنطرة ونحن فرحين بالسفر الی الخرطوم .. خرطوم زمان حيث المتعة والاستمتاع بكل شيء .. وأنا كنت فقط اتلهف لرؤية جنينة الحيوانات .. ويا حليل جنينة الحيوانات .. كانت أجمل حديقة واجمل متنزه فی كل الوطن والذى يزور السودان ولم يزر حديقة الحيوانات لم بری شيئا ولم يری الخرطوم ….
توقفت العربة اللوری فی القنطرة وأقبل الرجل الذي يعمل فيها يحمل فی يده راديو وهو يسأل الجلابی : ماشين وين ؟؟؟
فيجيبه الأخير : الخرطوم
فيرد عليه الرجل بحسم : ارجعوا ما تمشوا … الحكومة انقلبت …

فيبطل السائق مكنة العربية ويصغی الجميع للرجل فی دهشة وبصوت شبه موحد يصبح الجميع : القلبا منو !!!؟؟؟
فيجيبهم : المقدم حسن حسين عثمان …. استلم الإذاعة والقيادة العامة وادی الحيش القسم وأعلن البيان رقم واحد … ؟؟؟
لم أكن أفهم شيئا حينها غير أمر واحد اننی لن أسافر الی الخرطوم ولن اری حديقة الحيوانات .. الفيل والأسد والزرافة والتمساح والثعلب المكار فصدمت والعربة تستدير الی الخلف والناس فی هرج ومرج يتحدثون عن النميري .. انا مالی ومال النميري والمقدم حسن حسين عثمان فتحرات وسألت صاحب اللوری : عمو إذا مشينا الخرطوم النميري والمقدم حسن حسين بحمونا ما نمشی جنينة الحيوانات ؟

قام قال لي الخرطوم فيها ضرب .. فيها كتلة … كتلة !!! لذت بعدها بالصمت واكتفيت بارخاء السمع .. الحكومة انقلبت .. الحكومة انقلبت .. النميري وين ؟ لسه ما قبضوا .. فی ضرب شديد … البيان قال شنو ؟؟؟
لحدی ما دخلنا بلدنا التي انطلقت فيها مسيرة ضخمة تؤيد الانقلاب والمقدم حسن حسين عثمان .. ومشينا معها باللوری والناس تهتف بحياة الانقلابيين والمسيرة فی اتجاهها لمركز البوليس لتسليم مركزة التأييد طمعا فی السبق والحصول علی الخدمات من الحكومة الجديدة اذا بشخص يحمل راديو فی يده يوقف المسيرة ويقول للناس النميري قلبا تاني .. !!! فيصبح الناس ويهتفوا مرة أخرى : بالروح بالدم نفديك يا نميری .. عايد عايد يا نميری وبعد أن كانت هتافاتهم تقول تسقط تسقط ثورة مايو .. أصبحت تقول عاشت عاشت ثورة مايو !!!

وكتبت برقية تهنئة وتأييد جديدة للنميری وثورة مايو ومزقت الاولی ونحن بقينا شعب كل حكومة .
لم أعرف معنى ومغزى الإنقلاب العسكرى فی معاجم اللغة إلا بعد أن كبرت وذقت مرارة الظلم وقسوة الحياة والتشرد والغربة فعلمت أن المرارة التي احسستها وانا طفلا يريد أن يستمتع برؤية حديقة الحيوانات لا تساوي شيئا وانا رجلا يهجر وطنه ويترك أطفاله يحلمون كل يوم بوقت رجوعه وعودته ليحظوا بقبلة أو ضمة الی صدره .

بقلم
أحمد بطران

‫2 تعليقات

  1. الأخ بطران

    الاحتفاء بالتفصيلات الدقيقة قادت كبار الأدباء إلى العالمية

    وإني أجدك تكتب بالفصحى ، لأنك تدرك أن هناك من يقرأ من الجمهور العربي

    ولكن ” والطيور ترك علی اسلاكها ” ترك ؟

    لم أبحث في معاجم اللغة ،

    فإذا أردت أن تزاوج مابين فصحى وعامية ، فاختر ألفاظ يمكن أن تفهم

    لك ودي

  2. عجبتني كلمة ” عمو ”
    عليك الله صحي كلمة عمو كانت موجوده الزمن داك ؟!
    يا راااجل ?
    ذكرتني محمد سليمان وجراب الحاوي ?