أضاعوني.. وأي فتى أضاعوا..!!
في مؤتمر القمة العربي الشهير، الذي انعقد في بغداد قبيل أسابيع قليلة من الغزو العراقي للكويت.. ألقى الرؤساء والملوك العرب كلماتهم في الجلسة الافتتاحية على الهواء مُباشرةً.. كل خطاب كان (عرضحال) طلب دعم مالي من دول الخليج.. وفي كلمة الملك حسين (رحمه الله).. قال إنّ بلاده إن لم تجد الدعم السريع.. فستنشد بيت الشعر الشهير:
(أضاعوني.. وأي فتى أضاعوا..)..
وقد آتى بيت الشعر أُكُله، فاستجاب العرب بكرم حاتمي.. وفعلاً دعموا الأردن.. الدولة التي فرض عليها قدرها أن تكون واحةً في صحراء من الحروب والدمار تُحيط بها من كل جانب..
ولكن الأردن لم تضع، رغم شُح الموارد وضيق الجغرافيا، فها هي مَهبط الطب والعلاج للعرب عامة وللسودانيين خَاصّة.. اعتمدت الأردن كلمة السر في (الإنسان) واستثمرت فيه ليظل هو أغلى أصولها..
هنا في السودان، أنعم الله علينا بكل الموارد الطبيعية.. ثم أفَاضَ علينا في سنوات النفط أموالاً كانت كافية لنتحوّل إلى دولة مانحة.. تعطي بلا مَنٍّ أو أذى لكل من وصل مرحلة (أضاعوني..).. ولكن بلا وعي منا تبدّدت أموال النفط قبل أن تشرق أحلام التنمية والطفرة المُستحقة.. فتحوّل ملفنا إلى حالة (أضاعوني.. وأي فتى أضاعوا) بامتياز.. ومع سبق الإصرار والترصد..
هذا الواقع ما كان لنا أن (نقعه) لو توفرت لنا رؤية سديدة لمُستقبل رشيد.. لكن إدمان حالة العيش في هامش (اليوميات) هو الذي أودى بنا إلى هذا المصير.. فوصلنا إلى حالة (أضاعوني..) الآن.. ونتحسّر على الحال الذي جعل أغلى أماني حكومتنا (أن لا ينهار اقتصادنا).. ويمتن علينا وزير المالية أنّه سَيُحقِّق لنا مُعجزة الإفلات من السقوط في براثن الفشل الاقتصادي المريع..
وبعيداً عن البكاء على اللبن المسكوب، المصيبة ليست في ما هو كائن.. بل في غياب – حتى اللحظة – أيّة رؤية سَديدة لإعادة هيكلة الدولة بما يفي بمطلوبات النهوض من القاع.. فالذي يسمع ويشهد تصريحات المسؤولين يظن أن هذه البلاد مُسترخية في عافية الاقتصاد الكريم.. حالة انفصام كامل بين الواقع ومن يمسكون بأقلام القرار..
المحك الآن أن ندرك أنّ الوقت لم يعد يسمح بترف الانتظار.. مطلوب خطة استراتيجية.. ليست خطة حكومة ولا نظام حكم.. بل خطة دولة اسمها السودان.. وشعبها الصابر المكلوم..
مطلوب رؤية مُستقبل.. خالية من شوائب السياسة والساسة..
عثمان ميرغني
صحيفة التيار