طرق الحج الإفريقية القديمة.. التقاليد والمغزى والمضمون
أشرت إلى أن طريق الحج فتح حركة التواصل الإفريقي/ الإفريقي، والإفريقي/ الإسلامي ووصل ما بين ثقافة وتجارة الأطلسي والبحر الأحمر.أدى طريق الحج إلى نشر التنوير والتمدن ومعرفة الكتابة والنظافة والطهارة وتكثر العورة والوعي بالآخر، والكشوفات الجغرافية وتقبل الأفارقة للحكمة الصوفية وتشكل الأهالي على الولاء للسجاجيد الروحية، كما أدى طريق الحج إلى انتشار المذهب المالكي، كما أن طريق الحج أدى إلى انتشار الأمن والسلامة، ورحلة الحج في قوتها وتأثيرها ليست بأقل من التجربة الاستعمارية بكل جبروتها واستغلالها وفتوحاتها والتأسيس للفرانكفونية والأنجلوفونية أو غيرها، بل ومثل طريق الحج ذات قوة الفتوحات الإسلامية، بل إن اندثار طريق الحج ربما مهد للحروب الأهلية في دارفور وتشاد وغيرهما.
الحج وانتقال المعارف الروحية والعرفانية
التصوف الهرمي والبناء الروحي والتنظيمي:
انتقال تجربة آسيا الوسطى إلى العمق الإفريقي
بسط الاستعمار الفرنسي ابتداء من عام 1830 يده في الجزائر، ومن هناك بدأ التغلغل في غرب إفريقيا، بينما عهد الإنجليز والفرنسيون والمشروع التنصيري في التغلغل في مصر والسودان وعلى امتداد النيل في حماية دولة محمد علي وأبنائه وخصوصاً في عهد الخديوي إسماعيل حتى أصبحت مصر في قبضة الإنجليز ابتداء من عام 1882م.
ولعل أكبر مشروع تنويري، شهدته أفريقيا في القرن التاسع عشر ومكن من التصدي السلبي للمشروع الغربي بشقيه الاستعماري والتنصيري هو المد الصوفي الجديد الذي مثلته ثلاث مدارس هي التجانية ومدرسة السيد / أحمد بن إدريس الفاسي والمدرسة السمانية – واستمدت الثلاث مدارس مشكاتها من طريق الحج.
فالسيد أحمد التجاني وتلامذته غرسوا تعاليم التجاني في مؤتمر الحج – وكذلك السيد أحمد بن إدريس المولود بالمغرب والذي حج عن طريق مصر في عام 1898 والسيد أحمد البشير الطيب والذي كذلك حج في ذات الحقبة، والتقى بأستاذه محمد عبد الكريم السمان – والجامع بين السجاجيد الثلاث، أنّها واجهت المشروع الاستعماري بآليات استعادة الثقافة الإسلامية بالتعليم والتنوير والذكر وحضور الله الكريم في القلب والتعلق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فيما عرف بالنور المحمدي والحب الإلهي والحب لأصحابه وآله والدوحة النبوية، كما أفرغت طاقتها في التعليم والذكر وتحفيظ القرآن – ومع أنها لم تلجأ للعنف والمقاومة إلا أنها حصنت أتباعها والمجتمع من حولها من الثقافة الاستعمارية وحافظت على الأحكام الشرعية ، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق والحفاظ على العائلة كأساس للاجتماع، ونجحت في التصدي للإباحية الغربية والزواج المدني والإلحاد والمشروع التبشيري بمدارسه وجمعياته الخيرية وعناوينه الكثيرة.
واتخذ الثلاثة الكبار أرض الحج وطريق الحج ملاذاً، وكان السابق السيد / أحمد التجاني المتوفى في سبتمبر 1850 والشيخ احمد الطيب البشير المولود 1158هـ- 1742م والمتوفى 1239 هـ – 1823م أسهم الثلاثة التجاني وبن إديس وابن البشير في تشكيل الخريطة الروحية للسودانيين الشرقي والغربي كما دشنوا خريطة طريق جديد للعمل الروحي تقوم على جعل التصوف مؤسسة في قمة هرمها الشيخ المؤسس ثم خلفائه ثم المداومين ثم التابعين من الحوار بين الحوار مما أكسب العمل الصوفي الحركة الجماعية والانتشار المنظم والبعد الحركي التنظيمي عبر التسلسل الهرمي .
وكان ثلاثتهم يؤمنون بمشروعية الخلافة العثمانية، ويتعاطفون منها، في وقت اشتد فيه وجع الخلافة وكثرة الحركات الخارجة عليها، الأمر الثاني المشترك بين ثلاثتهم سعيهم لإيجاد المسلم الذاكر بالتربية والتلقين والأوراد والأحزاب والذكر بالقلب واللسان والحب الخالص، كما طعموا تعاليمهم بالحكمة أينما وجدت عند أبوالحسن الشاذلي وتلامذته أو عند متصوفة آسيا الوسطى كما هو الحال مع جلال الدين الرومي أو الطريقة البكتاشية أو القادرية أو النقشبندي ، واستعانوا بالمديح النبوي والشعر الصوفي تعبيرًا عن الشوق والوجد وبشروا بالفتوحات الروحية مع وجود فوارق بسيطة هنا وهناك.
ومن صلب التجانية خرج الجهاد الفوتي ومن صلب السمانية خرج الجهاد المهدوي ومن صلب تعاليم ابن إدريس جاء جهاد السنوسية وجهاد مهدي الصومال- علماً بأن رئاسة الطريقة في الحالات الثلاث كانت ضد العنف والمقاومة، باستثناء الحالة السنوسية، كما أن قادة الطريق كانوا مع الفتوحات الروحية والتربية ، ربما إدراكاً للفارق بين قدرات المسلمين وآليات التدمير والبطش التي كان يملكها الآخر المستعمر بجيوشه وأساطيله، ولذلك ركز ثلاثتهم على التعليم والدعوة والجهاد السلبي جهاد النفس لحفظ الصيرورة الإسلامية وبقائها.
خرج ابن إدريس عام 1798م إلى الحج ولم يعد مرة أخرى إلى داره، وانقطع ما بين مكة والحجاز ومصر واليمن 52 عاماً في التأسيس لمدرسته التي تخرج فيها الميرغني الكبير والسنوسي الكبير بالإضافة إلى مدارس صوفية أخرى على امتداد العالم الإسلامي أما السمانية فقد أصبحت الأوسع انتشاراً في السودان تليها القادرية والتجانية وتعود مشكلة كل هذه الجماعات إلى تجربة الحج وطريق الحج، ولعل آخر تجربة مكتوبة كطريق الحج هي تجربة الشيخ عبد المحمود نور الدئم في عام 1712 وهناك ورقة كاملة في هذا الموضوع.
انخفض عدد الحجيج في القرن التاسع عشر رغم بروز هذه الثلاثي المبارك بفعل الاستعمار، ففي مرحلة لم يكُ في تمكبتو سوى 6 حجاج كما انحطت أوضاع الثقافة الإسلامية، وأصاب الخلافة العثمانية الضعف والتفكك كما أصبح عدم الاستقرار وانعدام الأمن من سمات المرحلة – ولعلنا نحتاج لورقة إضافية في هذا المجال، كما أن رواد المهدية في السودان لا محمد أحمد المهدي ولا خليفته ولا خلفائه أدوا فريضة الحج: لا قبل الدعوة للجهاد المهدوي ولا بعده، وهذا كذلك يحتاج لورقة تبين لماذا لم يفكروا في الحج كما فعل قادة السمانية مثلاً – فالشيخ أحمد الطيب أدى الفريضة وعمره 16 عاماً بينما الإمام المهدي حتى بلغ الأربعين لم يفكر في الحج، وربما نجد له العذر في مرحلة الجهاد. والله أعلم
بروفيسور حسن مكي
صحيفة الصيحة