تحقيقات وتقارير

مَافيا الدواء!!

هنا الصورة تكاد تكون قاتمة مع الارتفاع الجنوني المستمر لأسعار الدواء في ظل تحرير سياسة التحرير التي أثقلت كاهل المُواطنين ودَفع مَسؤولين حكوميين لتوجيه أصابع الاتهام إلى عدة جهات قالوا إنها المسؤولة عن الارتفاع غير المبرر للأسعار، وأرجعوه إلى “جشع بعض مُستوردي الأدوية وضعف الناتج المحلي منها ووجود مُضاربين في الدواء”، من جَديد بَرَزَت إلى السطح قضية فساد شركات الأدوية التي استولت على مبلغ (30) مليون دولار كانت مُخصّصة للاستيراد، وهنا تكمن التناقضات ويكمن الغُموض.

الحلقة الأولى

حَديث وزير العدل.. المَزيد من الغُموض والتناقض
وزير العدل، كَشَفَ عن تورط مُوظّفين ببنك السودان المركزي في قضية أموال الدواء، لكن بعد ساعات من تَصريحاته تلك كذب البنك المركزي ما أورده وزير العدل ولم تهدأ العاصفة إلاّ قليلاً حتى دخل رئيس لجنة التحري في أموال الدواء على خط الأزمة وذهب أيضاً لتأكيدات حَديث وزارة العدل.. ملخص ما ورد يُؤكِّد وجود فجوة كبيرة حتى بين أقطاب الحكومة نفسها التي تتأرجح حتى في مواقفها الرسمية ما يُشير إلى التخبط، ويتهم مراقبون ما وصفوها بـ “مافيا الدواء” من المُستوردين الذين يتحكّمون في سعره، مؤكداً عدم وجود زيادة رسمية في أسعاره، ويدعون لوضع ديباجة الأسعار على العبوات تحدد سعرها “وعدم ترك الباب للمستوردين والتجار”، في وقت أماط فيه وزير العدل د. عوض الحسن النور، اللثام عن قضية شركات الأدوية المُتلاعبة بأموال الدواء، وأجاب الوزير بالبرلمان على سؤال مُقدّم من النائب المستقل أبو القاسم برطم بشأن عن ما جرى في التحقيق مع (34) شركة استولت على أموال مخصصة لشراء أدوية دون وجه حق، وقال النور: “إنّ الشركات قامت بمخالفات بحصولها على مبلغ (104) ملايين درهم إماراتي، ولم توف بالتزاماتها باستيراد الدواء”، وكشف بأنّ البعض قَامَ بتسجيل شَركات وأسماء أعمال (وهمية)، وزوّروا خطابات للمجلس الأعلى للسموم، للسماح لهم بالاستيراد، وأشار النور لتورط موظفين ببنك السودان المركزي في القضية، ونوّه إلى أنّ من بين أصحاب الشركات مدير سابق لأحد المصارف، فَضْلاً عن معلومات مُدّهم بها موظفون ببنك السودان المركزي ومصارف أخرى، ولفت وزير العدل للإجراءات الفورية التي اتخذها البنك المركزي في القضية بقرار حظر مصرفي للشركات المُتورِّطة، وتجميد حساباتها بالبنوك، وقال النور: “الأولوية في القضية مُنحت للتسوية المالية بمُوافقة القيادة السِّياسيَّة ووزارة العدل، وهي تلزم المتهمين برد 30% من مبالغ التمويل المُهدرة فوراً بذات العملة التي صرف بها التمويل، على أن يسدد الباقي على قسطيْن خلال فترة محددة مع تقديم اسم العمل لضامن غارم بعد التأكد من براءته المالية، وتُحوّل المبالغ المستردة للحساب الخاص بصادر الأدوية البشرية”، مُبيِّناً أنّه تمّ استرداد (11) مليوناً و957 ألف درهم من جملة المبالغ المطلوبة من المتهمين الذين قبلوا بالتسوية، بجانب (16) مليوناً و701 ألف درهم من البنوك التي ثبت تورطها، وتوقّع النور استرداد 3 ملايين يورو في غضون الأيام المقبلة، وأفاد الوزير بإحالة بعض المتهمين من أصحاب الشركة للمحكمة، والقبض على (9) منهم، وكشف عن مُتهمين هاربين جارٍ البحث عنهم، ونوّه إلى أنّ بنك السودان قد اتخذ إجراءات بحق المُوظّفين المُتورِّطين قضت بفصلهم عن الخدمة، وفرض جزاءات على البنوك التي خالفت منشوره بشأن الـ10% من حصيلة الصادر المُخصّصة للأدوية، بغرامات تساوي قيمة التمويل الممنوح لشركات الأدوية المتلاعبة بأموال استيراد الدواء.. وبرّأ وزير العدل، ساحة وزارة المالية، قائلاً: “حتى الآن لم يثبت أي جانب يلي وزارة المالية في القضية”، لافتاً لاستمرار التحري في باقي البلاغات.
من جانبه، منع رئيس البرلمان بروفيسور ابراهيم أحمد عمر، التداول على إجابة وزير العدل وسط اعتراضات من بعض النواب، بناءً على توصية المستشار القانوني للمجلس الوطني، بحجّة أنّ الدعاوى مازالت أمام القضاء.

بيان البنك المركزي
وكان بنك السودان، أصدر تعميما صحفيا تلقت (التيّار) نفى فيه تورط بعض موظفية في قضية التلاعب بالأموال المُخصّصة لاستيراد الأدوية، وقال البنك إنّ ما ذكره وزير العدل بشأن تورط موظفيه غير صحيح، لأن البنك المركزي ومُوظفيه ليست لهم علاقة بقضية تخصيص النقد الأجنبي من حصائل الصادر إلى الشركات وأسماء الأعمال التي قامت باستيراد الأدوية البشرية، حيث توضع المبالغ المُخصّصة من حصائل الصادر لدى البنوك التجارية وهي التي تقوم بتخصيصها لشركات الدواء التي تستوفي شروط الاستفادة من ذلك التخصيص بما في ذلك توصية المجلس القومي للأدوية والسموم، وأضاف البيان ان ذلك لا يتطلب موافقة البنك المركزي الذي تنحصر مهامه في التأكد من أن تخصيص (10%) من حصيلة الصادر قد تم للبنك التجاري المعني.

تفاصيل مُثيرة
وذكر المستشار بوزارة العدل فتح الرحمن سعيد الطاهر رئيس لجنة التحري في عائدات الصادرات لتمويل الأدوية خلال برنامج (حال البلد) الذي بثته فضائية (سودانية 24) ليلة الأربعاء: “هناك مُوظفون من إدارة النقد الأجنبي ببنك السودان تم القبض عليهم، وتمّ فتح بلاغ في (34) شركة، والقبض على (9) مُتهمين”.
وأوضح أن الإهمال وضعف الضوابط بالبنوك التجارية أديا الى سهولة عملية الاحتيال، لافتاً الى أنهم عبارة عن شبكة إجرامية تواطئت ونفّذت، وكشف أن معظم الأموال حُوِّلت على حساب شركة واحدة في دولة الإمارات، مؤكداً تحريك إجراءات جنائية في مواجهة موظفين بالبنوك التجارية لتورطهم في القضية، وعزا فتح الرحمن قضية التجاوزات لعدم وجود ضوابط في الصرف لشركات الأدوية لاعتماد البنوك التجارية على توقيعات مُزوّرة لمجلس الصيدلة والسموم، وتابع أن الشبكة كانت عملاً بتنسيق تام عبر أسماء (11) شركة وهمية، ونبّه المُستشار إلى أنّ الشركات التي لجأ بنك السودان لعمل تسويات معها كانت مُخالفاتها عدم إيداع ملفات الصادر، مُشيراً إلى وجود مشكلة أخرى تتعلق بعدم تحديد تعرفة الأدوية، وذكر أن هناك شركات استوردت أدوات معملية طبية، مؤكداً أن لجنته مستمرة في عملها لجمع المعلومات، كاشفاً عن ثلاثة متهمين رئيسيين هربوا الى الخارج.

تحفظات قانونية
وحول حديث النائب البرلماني المُستقل أبو القاسم برطم ونيل شركة واحدة فقط (90%) من المبالغ المُختلسة، تحفّظ الطاهر الرد على السؤال بحجة أنّ التحريات لا تزال جارية، لكنه أقرّ بتقصير من بنك السودان والمجلس القومي للأدوية والسموم في مُتابعة حسابات أموال الدواء، وتحدث عن خلل واضح وعدم انضباط، وانتقد أبو القاسم برطم ما ذهب إليه البنك المركزي بإجراء تسوية في القضية، وتَساءل عن دواعي تدخل القيادة السِّياسيَّة في قضية قانونية، فيما أوضح رئيس لجنة التحري أن من بين الشركات المتورطة (11) وهمية، وقدمت مستندات مُزوّرة.

تقاعسٌ وخللٌ إداريٌّ
واتهم النائب أبو القاسم برطم، مجلس الأدوية والسموم بالتقاعس عن مهامه في متابعة الأموال المخصصة للدواء وأوجب عليه ضرورة متابعة الأموال لدى البنك المركزي بشكل دوري والشركات التي تم التصديق لها، منتقداً اتجاه بنك السودان لتسوية القضية مع بعض الشركات المخالفة، مُشيراً إلى أن التحلل يُضيع هيبة القانون.
وكان وزير العدل د. عوض الحسن النور، أشار في جلسة البرلمان أمس الأول، عن تورط موظفين ببنك السودان المركزي في القضية، وهذا ما نفاه المركزي في تصريح صحفي أمس، بيد أنّ مسؤول التحري أكد ذلك وأشار الى تقصير إداري من المركزي.

مَن يفتح التحقيق؟!
الأمين العام للجمعية السودانية لحماية المستهلك د. ياسر ميرغني، طالب بفتح تحقيق في ملف الأموال المُخصّصة للأدوية منذ العام (2011م) أي قبل تخصيص نسبة (10%) من عائدات الصادر وكان بنك السودان يمنح مبلغ (5) ملايين يورو أسبوعياً لاستيراد الدواء وتمّ دفع أكثر من (5 – 6) دفعيات كان يوزعها الأمين العام لمجلس الأدوية والسموم مع شُعبة المُستورين فقط، وتم إبعادي كممثل لحماية المستهلك وآخرين من اللجنة، رغم اننا اجتمعنا في الاجتماع الأول وقلنا إن هذه المبالغ يجب أن توزع للأصناف وليس الشركات وأن توظف فقط للأدوية المُنقذة للحياة والأدوية الأساسية وهذا ما تمّت إجازته في الاجتماع الأول، ولكن تمّ استبعادنا ولم يدعونا لأيِّ اجتماع آخر.
ويرى ميرغني أنّ الأمين العام لمجلس الأدوية والسموم انفرد مع مافيا الأدوية ووزعوا هذه المبالغ، ونجدد مطالبتنا مرة أخرى لمراجعة هذه المبالغ منذ العام 2011 كي يعرف المُستهلكون أين ضاعت أموالهم لأنّ هذا الأمر الذي تم بتواطؤ غريب بين وزارة الصحة ومجلس الأدوية والسموم ويضيف: “هناك أحد المستوردين للأدوية نال (48%) من المبالغ المُخصّصة للدواء”.

شكوى مواطنون
وشَكا مُواطنون من غلاء أسعار الدواء واختفاء بعضها من السوق؛ الأمر الذي سَاهَم في تدهور بعض الحالات وقاد بعضهم للحصول عليها بطرق خاصة من الخارج بأسعار مرتفعة.. وتقول موظفة في القطاع الخاص تُدعى فاطمة، لـ “التيار”، إنها أُرهقت تماماً من أزمة نقص وارتفاع الدواء، وتضيف: “شهرياً أقطع الأميال في البحث عن بعض الأدوية المهمة لوالدتي المريضة وفي معظم الأحيان لا أجدها، وإن وجدتها يكون سعرها تضاعف عن الفترات السابقة”.. أما الموظف ياسر فيؤكد أنّ الدواء يحتاج إلى ميزانية وأنّ راتبه الشهري لا يكفي لذلك، ويُشير إلى أنّ هناك أدوية مرتفعة السعر خارج التأمين ما يجعله بدون قيمة، ويشكو أيضاً من اختلاف أسعار الأدوية لنفس الصنف ما يحدث حالة فوضى في السوق والمواطن في النهاية هو الضحية حسب تعبيره.

(5) ملايين يورو شهرياً
وكَشَفت مصادر ذات صلة لـ “التيار” أن أموال استيراد الدواء البالغ قدرها (5) ملايين يورو شهرياً كانت تُوزّع عن طريق المجلس القومي للأدوية والسموم، لكن مُؤخّراً تتم عملية توزيع الأموال عبر غرفة مُستوردي الأدوية والتي تقوم بإعطاء حصص الشركات، وتساءل ذات المصدر عن ضرورة توفر توصية بالاستيراد للدواء المُحَدّد وفي حال عدم توفرها ربما تكون هُنالك تجاوزات من البنوك.

تحت قُبة البرلمان!!
وكانت رئيس لجنة الصحة والبيئة والسكان بالمجلس الوطني، كَشفت عن جُملة المبالغ التي استلمتها الشركات لاستيراد الأدوية التي تُقدّر بحوالي (30) مليون دولار.
وقالت امتثال الريح في تصريحات صحفية بالبرلمان، إنّ لجنة التحقيق شكّلت فريق تحقيق عبر الأجهزة القانونية من لجنة العمل بالبرلمان ووزارة العدل ومحافظ بنك السودان. وأوضحت رئيس لجنة الصحة انهم يعملون من أجل الحفاظ على حقوق المواطن خاصّةً فيما يتعلّق بالدواء.
الجدير بالذكر أنّ هذه القضية والتي تُصب في الفساد فيما يتعلّق بحُقوق المُواطن التي كانت بدايتها منذ العام 2014م.

ثلاثة بنوك وراء عملية تبديد (30) مليون دولار
وعلمت “التيار” من مصادرها بأنّ السلطات أوقفت عدداً من المُتورِّطين في قضية الشركات الـ (34) التي تم ضبطها مؤخراً، كما أنّ المبالغ التي تم تبديدها وكانت مخصّصة لاستيراد الدواء تم تحويلها عبر ثلاثة بنوك تجارية كبرى، وأفادت ذات المصادر بأنّ البنك المركزي فرض غرامات على مصارف مُتورِّطة في قضية التلاعب باستيراد الدواء بينها (114) مليون درهم لمُخالفات، كما تَمّ إلقاء القبض على عدد من المُوظِّفين المتورطين في القضية بينهم واحد تم منحه (4) ملايين درهم إماراتي للاستيراد تسلمت الجهات المتهمة بالقضية (3) ملايين.

350 مليون دولار مبالغ استيراد الدواء السنوية
وتُشير إحصائيات رسمية تحصلت “التيار” أنّ الاستهلاك السنوي من الأدوية يبلغ 350 مليون دولار ويستورد القطاع الخاص ومن خلال 80 شركة ما قيمته 270 مليون دولار أمريكي في حين تتم تغطية الباقي حوالي 68 مليون دولار من خلال المصانع المحلية.

عقبات في الطريق
وتُواجه صناعة الدواء، تحديات كبيرة في الحصول على العُملات الأجنبية لاستيراد مدخلات الإنتاج التي تقدّر بستين مليون دولار سنوياً. وحذّر أصحاب المصانع من توقف بعض المنشآت الصناعية جراء زيادة كلفة الإنتاج، خَاصّةً في ظل عدم مُساهمة الدولة في توفير حاجة هذا القطاع الحيوي من النقد الأجنبي.

أزمة مُزمنة
وتُعاني صناعة الدواء في السودان من مشكلات طال أمدها وحالت دون توفير احتياجات البلاد الدوائية، ومن أبرز تلك المشكلات: قدرة المصانع على مُواكبة تطورات الصناعة الدوائية، إضافةً إلى سياسات التسعير وفرض الرسوم الجمركية على المواد الأولية اللازمة لإنتاج الدواء، ويحتاج قطاع الصناعة الدوائية في البلاد يحتاج سنوياً إلى حوالي 60 – 70 مليون دولار وهي غير متوفرة، كما أنّ هناك مُشكلة أخرى تفاقم أزمة القطاع وترفع من التكلفة، تتمثّل في انقطاع الكهرباء واضطرار المصانع للجوء إلى المحروقات كطاقة بديلة، كلفتها خمسة أضعاف ما يدفع في الكهرباء، ولا توفر مصانع الدواء التي يبلغ عددها 19 مصنعاً إلاّ ما نسبته 34% فقط من حاجة السوق المحلية من الدواء، وهي نسبة – على قلتها – مُهَدّدة بالتناقص في ظل الأزمة التي يُعانيها القطاع من ارتفاع تكلفة الإنتاج.

تحقيق: بهاء الدين عيسى
شارك في التحقيق: حسن محمد أحمد
صحيفة التيار

تعليق واحد

  1. لن يظهر شئ و لن يقدم احد للمحاكمة ايها السادة لان المافيا التي تتحدثون عنها هي الحكومة نفسها و اقاربهم .
    نفس السيناريو القمئ القديم . ترويج لانهم يحققون و فجأة لا منهمين ولا يحزنون .
    خط هيثرو المبيدات تقاؤي القطن حاوية المخدرات و غيرها كثير .
    انما اهلك الذين من قبلكم انهم اذا سرق فيهم الشريف تركوه.
    ولكن الطوفان قادم و سوف لن يبقي ولن يذر.
    اللهم عجل بفضحكهم و اهلكهم كما دمروا البلاد والعباد