فوائد وأضرار القدرة على التحكم في الأجهزة الإلكترونية بقوة العقل
م يعد بعيداً ذاك المستقبل الذي نستطيع فيه التحكم في السيارة أو الهاتف الذكي بقوة العقل وحدها، لكن ثمن ذلك قد يكون إجراء جراحة تنطوي على مساسٍ بخلايا الجسد لزرع أجهزة ما فيه.
منذ أن بدأ أطباء وعلماء الأعصاب والمهندسون العاملون في مجال تطوير الأجهزة الإلكترونية العمل على تطوير ما يُعرف بـ”الأجهزة الوسيطة” التي تربط بين المخ البشري وبعض الأدوات الإلكترونية التي يستخدمها الإنسان، يعكف الناس على التفكير في سبلٍ رائعة وغريبة للاستفادة من هذه التقنية.
فماذا لو استطعنا التنقل بين المحطات التلفزيونية بمجرد التفكير في القناة المفضلة لدينا؟ أو قيادة سيارة بقوة العقل والذهن دون تكبيد الذراعين والساقين أي عناء في هذا الشأن؟
ليس هناك من سبب، من الوجهة النظرية يفسر عدم قدرتنا على امتلاك ستراتٍ مُزودة بأطراف آلية كتلك التي ارتداها الممثل روبرت داوني الابن في فيلم “آيرون مان” (الرجل الحديدي)، أو عجزنا عن تحويل أدمغتنا إلى جهازٍ شاملٍ للتحكم عن بعد، يُمَكِنُنا من تشغيل كل الأجهزة الموجودة في المنزل.
لكن لا تزال هناك مخاطر كامنة في ربط الدماغ بالأجهزة الإلكترونية، حتى مع استخدام أفضل التقنيات المستجدة المتاحة لنا حالياً في هذا الصدد.
وشكلت مسألة تطوير “الأجهزة الوسيطة” الجديدة التي تعمل بقوة الدماغ، أحد الموضوعات التي طُرِحت على المؤتمر الذي عقدته (بي بي سي فيوتشر) في سيدني منتصف الشهر الجاري حول الأفكار المستقبلية الكفيلة بتغيير شكل العالم.
ألا يمكنني الآن شراء أجهزة يتم التحكم فيها بقوة الدماغ؟
رغم أن الأسواق تشهد وجود العديد من الألعاب التي تبشر مستهلكيها بأنها تمنحهم القدرة على التحكم فيها عبر تسخير قوة العقل والدماغ فحسب، فإن أياً منها لن يمنحك على الأرجح القدرة على تحريكه والسيطرة عليه، بنفس البراعة والسلاسة التي تسنت لـ”داوني الابن” حينما كان يتحكم في سترته في فيلم “الرجل الحديدي”.
وتتوافر بالفعل مجموعة متنوعة من هذه الأدوات، بدءاً من قبعاتٍ ذات أسلاكٍ تُرتدى على الرأس لكي يتسنى لمستخدميها ممارسة ألعاب الفيديو، وصولاً إلى جهاز يتكون من مروحة وكرة وطوق، يتيح لمستخدمه الفرصة لتحريك المروحة – باستخدام موجاته الدماغية – لكي تضرب إحدى الكرات وتمررها من خلال طوق.
لكن العيب الذي تعاني منه هذه الأجهزة، يتمثل في أنها تلتقط النشاط الكهربائي للمخ عبر الجمجمة، وهي حائل لا يُستهان به فيما يتعلق بإضعاف قوة الإشارات.
وماذا عن عمليات زرع أجهزة إليكترونية في المخ؟
يعكف العاملون في مجال العلوم الطبية على توفير خيارات أكثر تطوراً للمصابين بالشلل أو من فقدوا بعض أطرافهم. وفي العام الماضي، زُرع جهاز استشعار صغير على الجانب الأيسر من دماغ سيدة مشلولة، أتاح لها الفرصة للتحكم في أداة بدت بمثابة “فأرة كمبيوتر” تعمل بتقنية البلوتوث، وهو ما مَكَنّ السيدة في نهاية المطاف من “النقر” بشكل افتراضي على شاشة جهاز حاسب آلي لوحي، تعمل باللمس.
كما نجح جراحون آخرون في كلية الطب بجامعة جونز هوبكينز الأمريكية من تمكين شابٍ من “هز” أصابع ذراعه الاصطناعية، كل أصبع على حدة، بعدما ثبتوا 128 أداة استشعار تعمل بالأقطاب الكهربائية على الجانب الخاص بالتحكم في حركات الذراع واليد في القشرة المخية في دماغه.
وقد اغتنم عالم طب الأعصاب، جيفري روزنفيلد من جامعة موناش الاسترالية، فرصة انعقاد قمة “بي بي سي فيوتشر” في سيدني، للحديث عما يعكف على تطويره هو وزملاؤه لمساعدة المكفوفين، من “عينٍ اصطناعية” توجه إشاراتها بشأن ما يوجد أمامها إلى المخ مباشرة.
وتقوم هذه “العين” على فكرة استخدام زوج من عدسات النظارات، تبث إشاراتها بشأن ما يوجد أمامها، بشكل مباشر إلى جهاز مزروع في القشرة البصرية في الدماغ، وهو ابتكارٌ يقول الفريق الذي يتولى تطويره إنه سيساعد ما يصل إلى 85 في المئة من المُصنّفين “مكفوفين سريرياً”، وهم إما أشخاصٌ يعانون من الضعف الشديد للبصر، أو فقدوه تماماً، دون أن يفيدهم في علاج هذه المشكلة النظارات الطبية أو العدسات اللاصقة.
وفي ضوء أن هذه التقنية ترسل الإشارات الخاصة بتفاصيل ما يوجد أمامها إلى المخ مباشرةً، فقد تكون مفيدة لمن لا يستطيعون الانتفاع بعمليات زرع القرنية، التي تمثل شكلاً آخر من أشكال الاستعانة بعين اصطناعية. ومن المقرر أن تبدأ تجربة تلك التقنية الجديدة على البشر في عام 2017.
ورغم أن “الأجهزة الوسيطة” التي تربط بين أدمغة البعض والأطراف الصناعية الخاصة بهم آخذةٌ في التطور، فإنها لا تسلم من العيوب بدورها.
فمن أجل تمكين هذه الأجهزة من رصد الإشارات الكهربائية الخاصة بالمخ بوضوح، يتعين على الجراحين شق الجمجمة أو إحداث ثغرة فيها لزرع أقطاب كهربائية على سطح المخ مباشرة. وبجانب ما تنطوي عليه مثل هذه الجراحات من مخاطر واضحة، فإنه قد يعقبها التئام الجلد على شكل ندوب تحيط بالأقطاب المزروعة، مما يؤدي إلى إضعاف قوة الإشارات الصادرة عنها بشدة.
هل هناك وسيلة أفضل لالتقاط إشارات المخ بشكل أوضح دون أي تدخل جراحي يطال الجمجمة؟
هناك خيار آخر أقل دراماتيكية مما ورد ذكره سابقاً، ولكنه لم يُختبر حتى الآن سوى على الأغنام. ويعكف على تطوير هذا البديل العالم نيكولاس أوبي وزملاؤه في جامعة ملبورن ومستشفى ملبورن الملكي ومعهد فلوري لعلم الأعصاب والصحة النفسية.
ويتمثل في جهاز إلكتروني يُطلق عليه اسم “ستينترود”، ويتسم بأنه صغير الحجم للغاية، بالقدر الذي يسمح بإدخاله في أحد الأوعية الدموية الموجودة بجسم الإنسان.
وفي هذا السياق، يُدخِل الجراحون ما يشبه “دُعامةَ” مرنة وشديدة الصغر في أحد الأوعية الدموية بمنطقة الـ”أُرْبِيَّة” في الفخذ، ثم يوجهونها صعوداً حتى تصل إلى القشرة الحركية في المخ، وهي بقعة تقع في منطقة القشرة الدماغية، ومسؤولة عن الحركة في الإنسان.
وعند وصول الأداة الإلكترونية إلى هذه المنطقة تبقى هناك مستقرة في أحد الأوعية الدموية، لتتولى تجميع الإشارات الصادرة من المخ ليلاً ونهاراً.
ويعمل الباحثون على أن يتمكنوا في نهاية المطاف من جعل هذه الأدوات الإلكترونية قادرة على “إرسال إشارات” إلى جهاز خارجي على شكل سترة بوسع من فقدوا أطرافهم ارتداؤها.
وإذا ما تمكن هؤلاء من إرسال إشارات لمثل هذه “الهياكل الخارجية” ومن ثم تحريكها، فسيعني ذلك استعادتهم لقدرتهم على تحريك أنفسهم بشكل ما.
وثمة إمكانية لأن يتم اختبار هذه التقنية الجديدة في ملبورن بحلول أواخر العام المقبل على أبعد تقدير، وذلك بالاستعانة بأشخاصٍ مصابين بشللٍ في النصف السفلي أو شللٍ رباعي، ممن سيكونون على الأرجح شباناً أصيبوا في حوادث وقعت لهم مؤخراً وأقعدتهم عن الحركة.
بجانب ذلك، فقد يكون ممكناً في يومٍ ما أن يتسنى لأجهزة الـ”ستينترود” إرسال الإشارات في الاتجاه العكسي، أي توجيهها إلى القشرة الحسية للمخ، مما سيُمَكِّنُ من يستعينون بأطراف صناعية من “الشعور” بما تلمسه هذه الأطراف، وهو ما سيفتح المجال واسعاً أمام الكثير من الإمكانيات والفرص العلاجية المحتملة.
وفي هذا الشأن، يقول دافيد غرايدن المهندس الكهربائي المشارك في المشروع الخاص بتطوير التقنية الجديدة إنه إذا أراد شخصٌ ما الإمساك ببيضة مثلاً بطرفه الاصطناعي، فسيكون حريصاً على ألا يُمسك بها بقوة مفرطة لكيلا تتهشم، ولذا سيكون تلقيه إشاراتٍ من المخ تكشف له مقدار الضغط الذي يمارسه بيده الاصطناعية في هذا الشأن “أمراً سيُحدِث فارقاً كبيراً”.
إذن هل سنتمكن جميعاً في القريب العاجل من امتلاك أجهزة يمكن التحكم فيها بقوة العقل وحدها؟
من الممكن أن تصبح الأدوات الإلكترونية من نوع الـ”ستينترود” متاحةً في الأسواق في غضون ستة أعوام تقريباً، إذا ما نجحت التجارب التي تُجرى على البشر بشأنها. ولكن على الرغم من أن هذه التقنية تبقى أقل مساساً بالأنسجة البشرية مُقارنةً بالخيارات الأخرى التي تتطلب إجراء جراحات في الجمجمة، فإن الأمر يشتمل هنا أيضاً على إدخال أداة خارجية إلى المخ.
ويقول غرايدن إن المخاطرة المترتبة على ذلك ربما تكون مقبولةً بشدة من جانب أشخاصٍ قد تُمَكِنُهم تلك الوسيلة من استعادة القدرة على تحريك أجسادهم. ولكن الرجل يشير إلى أنه من العسير تصور أن يأتي يومٌ يزرع فيه الناس أقطاباً كهربائية في أدمغتهم – عبر هذه التقنية – لأسبابٍ تتعلق برفاهية العيش فحسب.
ويضيف غرايدن: “تشكل عملية إدخال (هذا الأداة إلى الجسد) مسألة خطرة في حد ذاتها، فلا يزال الأمر ينطوي على توغلٍ من جانبك في جسدك، وسيتعين عليك التيقن من أن المنفعة التي ستعود عليك (جراء ذلك) تفوق ذاك الخطر”.
ولاشك في أن السعي سيتواصل لإيجاد بدائل وخياراتٍ أكثر دقة وأقل مساساً بخلايا الجسد من تلك المتوافرة حالياً. ولكن من المحتمل ألا يتسنى للمرء قريباً أن يذهب إلى العمل بداخل هيكل معدني خارجي، يركض به إلى حيث مقصده، بقوة العقل وحدها.
BBC