مقالات متنوعة

“الجنائية الدولية” والعصيان الأفريقي

حين وقّعت 34 دولة أفريقية على اتفاقية روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، لم تكن تدرك أنّ قارّتها ستكون المنطقة الأكثر تمثيلاً في تشكيل المحكمة. فمنذ تأسيسها عام 2002، وجهت المحكمة تهماً لثلاثين شخصاً ارتكبوا جرائم في ثماني دول أفريقية (الكونغو الديمقراطية، أفريقيا الوسطى، أوغندا، السودان، كينيا، ليبيا، ساحل العاج، مالي). وتختلف مصادر التحقيقات التي فُتحت في الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى ومالي وأوغندا، بطلب من هذه الدول بوصفها موقعة على اتفاقية روما، عن القضايا المتعلقة بالسودان وليبيا، والتي تم فتحها بطلب من مجلس الأمن الدولي، لأنّهما غير موقعتين على الاتفاق.
وقد تبنت، في مايو عام 2013، دول الاتحاد الأفريقي، في قمتها في أديس أبابا، قراراً بالإجماع يقضي بنقل الملاحقة القضائية إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الكيني، يوهورو كينياتا، ونائبه وليام روتو، إلى القضاء الكيني، متهمين المحكمة بأنّها تمارس نوعاً من المطاردة العنصرية، وتستهدف الأفارقة خصوصاً. وقد تم هذا القرار بدون تصويت رسمي، وبإجماع كل الدول، ما عدا بوتسوانا وغامبيا التي تنتمي إليها المدعية العامة في المحكمة، فاتو بنسوده، والتي تتولى الملاحقات في الملف الكيني.
لم يكن لقرار الاتحاد الأفريقي أي فعالية إلزامية على المحكمة الجنائية الدولية التي تشكل كياناً مستقلاً. ولكن، ظهر وقعه السياسي الآن بأنه جاء على أهواء قادة أفارقة كثيرين. أعلنت جنوب أفريقيا وبوروندي وغامبيا، أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، انسحابها من الجنائية، ويُعتبر انسحاب جنوب أفريقيا الأكثر إضراراً بالمحكمة، كونها أقوى المؤيدين للعدالة الدولية. وبهذا، يكون القرار قد اتفق، بشكلٍ ما، مع نتيجة الاقتراع الذي أجراه الاتحاد الأفريقي عام 2009، بعدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، إلى حين تهيئة الانسحاب الجماعي.
تعتبر كينيا أول دولة أفريقية تقرّر الانسحاب من عضوية المحكمة الجنائية، في قرارٍ هو ردة فعل على الاتهام الموجه لها من المحكمة، إلّا أنّه لن يكون نافذاً إلّا بعد عام من تاريخ سحب العضوية رسمياً، وموافقة برلمانها الذي يقول عنه رئيسها إنّ موافقته مسألة زمن. فالرئيس الكيني ونائبه اللذان انتخبا في مارس/آذار من عام 2013 اتهمتهما المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، للاشتباه بدورهما في تنظيم أعمال عنف قبلي وطائفي وجرائم اغتصاب وتمثيل بالضحايا، عقب إعادة انتخاب الرئيس مواي كيباكي في ديسمبر/كانون الأول 2007. أوقعت هذه الأحداث أكثر من ألف قتيل، ونزح جرّاءها أكثر من 600 ألف آخرين في أسابيع قليلة. وجاءت محاكمة نائب الرئيس الكيني، وليام روتو، في العاشر من سبتمبر/أيلول 2013 أمام المحكمة الجنائية الدولية، وتم إرجاء مثول الرئيس أوهورو كينياتا إلى نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2014، بداية عملية لتطبيق العدالة تُعلي من بعض الأصوات، وتخفض أخرى. وفي ديسمبر 2014، أسقطت المحكمة الجنائية الدولية التهم عن الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، لعدم توفر أدلة كافية لإثبات المسؤولية الجنائية المفترضة.
أعاد الموقف الكيني إلى الذاكرة الأفريقية اتهام المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، لويس
“طبيعي أن يتم تسليط الضوء على 34 دولة أفريقية من بين 124 دولة صادقت على معاهدة تأسيس المحكمة”
مورينو أوكامبو، الرئيس السوداني، عمر البشير، بارتكابه جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غربي السودان. طلب أوكامبو من المحكمة إصدار الأمر بالقبض على البشير ووزير الدولة في الداخلية السودانية حينها، أحمد هارون، وزعيم مليشيا الجنجويد، التابعة للحكومة والمكونة من قبائل عربية، على كوشيب، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في الإقليم، ضد الحركات المتمردة من سكانه، والذين ينتمون إلى قبائل أفريقية، من 2003 إلى 2005.
أما الاعتبار الذي يفرض نفسه على وقائع الأشياء، فهو أنّ أفريقيا قارة مبتلاة بأنظمة حكم ديكتاتورية، يستشري فيها الفساد، وقد تتمكّن كل دولة فيها من تدجين الأنظمة القانونية والسلطات القضائية داخل حدودها، وتمنعها من التعاون مع المحكمة الدولية. كما يمكنها الضغط على المنظمات الإقليمية، مثل منظمة الاتحاد الأفريقي الذي يضم في عضويته هؤلاء القادة أنفسهم.
وما يبرّر تركيز المحكمة على أفريقيا أنّ السلطة القضائية للمحكمة محدودة على الدول التي صادقت على معاهدة تأسيسها فقط، ولا تتدخل في دول أخرى إلّا بموافقة مجلس الأمن الدولي. وطبيعي أن يتم تسليط الضوء على 34 دولة أفريقية من بين 124 دولة، صادقت على معاهدة تأسيس المحكمة. أما الخلل الواضح الذي يلي هذا التبرير، فهو أنّ مجلس الأمن استخدم سلطاته لإحالة بعض القضايا المتعلقة بدولٍ ليست أعضاء في المحكمة، مثل السودان وليبيا، لكن دولاً كبرى، مثل أميركا وروسيا والصين، لن يستطيع إحالة قضايا ضدها في المحكمة، لأنّها تتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن. وقد استخدمت روسيا والصين الفيتو لمنع إحالة جرائم النظام السوري إلى المحكمة.
ولكن، ما يحتاج إلى أكثر من تبرير هو موقف النظام السوداني الذي طلب من القمة العربية في نواكشوط في يوليو/تموز الماضي اتخاذ خطواتٍ لدعمه في مواجهة اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، بينما اعترض النظام نفسه على ما جاء في “إعلان نواكشوط” بضرورة دعم محاكمة الإسرائيليين أمام “الجنائية” على مجازرهم في فلسطين.

العربي الجديد