بيانات ووثائق

هذا أوان البوح .. الصحافة الحزبية.. عودة في الزمن الصعب

د. النجيب قمر الدين: الصحف الحزبية تفشل دائماً في اختبار المصداقية والموضوعية بانحيازها السافر إلى خط الحزب

فيصل محمد صالح: الصحف الحزبية تساهم في تطوير وزيادة مساحة الحريات

محمد وداعة: على الصحافة الحزبية أن تنأى عن الحزبية المفرطة وأن تحمل رسالة مشتركة

هنادي الصديق: الصحافة الحزبية ستُواجَه بعقبات كثيرة ولابد من تضحيات لتحقيق الهدف

الوفاق عند العامة يعني جمع كل المواقف والآراء في وعاء واحد، ولكن حتى ينضج ذات الرأي ويأخذ تطوره ومساره الطبيعي لابد أن يكون لكلٍ منبره الخاص.

هذه التعددية مع تنازعها بين هذه التيارات أخضعت الصحافة السودانية بشكل كبير إلى جملة محددات سياسية واجتماعية واقتصادية داخلية، أحكمت العلاقة بين الصحافة والسلطة السياسية في ظل إستراتيجية تعبئة إعلامية واضحة أثقلت كاهل الرأي الآخر.

وها هي بعض من الغشاوة تزول، وذلك بعد أن تم التصديق من قبل المجلس القومي للصحافة والمطبوعات لصحيفتين حزبيتين لحزب البعث السوداني والمؤتمر السوداني.

إذن نحن في انتظار مد قادم من صحافة الأحزاب، وهنا يقف سؤال براق أين ستقف تلك الصحف وسط 49 صحيفة بكل تخصصاتها بمعدل توزيع يومي بلغ (320.580) نسخة تحت ظل الكثير من الظروف والمعطيات التي يعيشها الواقع الصحفي والحزبي في السودان، خصوصاً بعدما أشار الرئيس عمر البشير بمقترح دمج الصحف والذي علق عليه الصحافي محجوب عروة في حديث سابق إذا دُمجت الصحف فهل يمكن أن تدمج الأحزاب السياسية؟

اختبار

تشكل قضايا الحريات ومؤاءمتها مع القوانين الصحفية هاجساً يقض مضاجع الهيئات الحزبية التي توزعت نشاطاتها وآراؤها أيدي سبأ بين الصحف السياسية المستقلة وشبه المستقلة، فترفع رأسها تارة بعد أخرى مطالبة بحقها في الرأي عبر قنواتها المتخصصة. فالأحزاب والصحافة الحزبية ارتبطت بالوعي بالمنتمين سياسياً وقادة الرأي والطوائف الدينية وأصحاب النزعات الإيديولوجية، وهي أيضاً إحدى مؤشرات الحالة العامة لقياس الرأي ومدى تقدمه وتأخره.

وفي ذلك يرى مراقبون أنه من المبكر تقييم تجربة قبل حدوثها، لاسيما أن عمليات الإيقاف لازالت تهدد النشر الصحفي، ولكن هناك آخرون يرجحون بقياس آخر باعتبار أن خطوات الصحافة الحزبية الواضحة تجاه قضايا الناس والمساهمة في رفع الوعي هي التي ستحدد مسارها وإمكانية استمراريتها رغماً عن أي ظروف.

الرائد والميدان

ولم يكتب لصحيفة (الرائد) لسان حال المؤتمر الوطني، النجاح رغم توفير كامل الإمكانيات لها، وهو أمر يرى كثيرون أن السبب فيه عائد بالدرجة الأولى للسياسة التحريرية التي كانت مقصورة على رؤية وعباءة المؤتمر الوطني، أضف إلى ذلك أن القادة الذين تعاقبوا على أمانة الإعلام بالحزب الحاكم كان لهم دور في ذلك، بالتغيير المستمر لرؤساء التحرير حيث تعاقب عليها ثلاثة من رؤساء التحرير في فترة محدودة، ما أسهم في وجود ربكة رغم الإمكانات المادية التي خُصصت للصحيفة، والتي لم تخل هي أيضاً من التسبب في تعثر الصحيفة على اعتبار أن تلك الأموال لم تتم إدارتها بالطريقة المثلى. ويشار هنا إلى أن الفريق التحريري لم يكن كله من منسوبي المؤتمر الوطني، وهو عامل إيجابي في نظر الكثيرين، لكنه لم يشفع في بقاء الصحيفة على اعتبار أن محددات النشر كانت وثيقة الارتباط بالرؤية الكلية للحزب الحاكم.

وبالمقابل فإن صحيفة (الميدان) لسان الحزب الشيوعي السوداني، ظلت مستمرة في الصدور رغماً عن كل الظروف المحيطة بها، فقد استمرت هذه الصحيفة طويلاً وهو أمر يمكن أن يشفع للصحافة الحزبية احتمالية صمود الصحيفة الناطقة باسم الحزب حال توافرت العزيمة والإرادة.

وعلى ذات الصعيد، أكد آخرون أن وقت تحديد المسار السياسي للكتابة قد ولى، باعتبار أننا نعيش عصر الوسائط وأنه بإمكان كل حزب أن يمتلك موقعاً إلكترونياً ينشر فيه كل نشاطاته وبرامجه كيفما شاء ويكون أكثر مقروئية من الصحافة الورقية ذات المحددات والإملاءات الموجهة.

إمكانية الصمود

هناك ترجيحات ترقى لدرجة اليقين لدى كثيرين بأن خروج الصحف الحزبية من تقسيم (كعكة الإعلانات) سيقذف بها لا محالة خارج ساحة المنافسة لأن الثمن الحقيقي للبقاء هو العوائد الإعلانية. هذا الوضع الذي جعل كثيرا من الصحف أمام خيارين لا ثالث لهما أولاً أن تنأى بنفسها عن سياسة الانتقاد، وذلك لما قد تطالها من عقوبات مادية تقذف بها خارج ساحة المنافسة، أو الوقوف على قدم واحدة في مهب الريح من أجل قضاياها.

مساحة الحرية

لتتمكن الصحافة الحزبية من المضي، لا بد لنا من الوقوف على مساحة الحريات في السودان. فالشاهد في الأمر وحسب ترتيب شبكة “مراسلون بلا حدود” لحرية الصحافة للعام 2016م فإن السودان حاز على المرتبة 174 من بين 180 بلداً. ويستند التصنيف على قياس حالة حرية الصحافة، انطلاقاً من مؤشرات عدة أبرزها تقييم مدى التعددية واستقلالية وسائل الإعلام ونوعية الإطار القانوني والبنية التحتية وسلامة الصحفيين في 180 بلداً وذلك بمساندة خبراء من جميع أنحاء العالم.

اللبنة الأولى

كانت الصحافة أداة فاعلة في تعبئة الرأي العام حول قضايا التحرير، واستطاعت أن توحد جهود أبناء السودان لنيل الاستقلال في العام 1956م. والصحافة الحزبية في السودان كانت هي الأولى بأعتبار أن الأحزاب هذي كانت تمثل الحكومة وتعبر عن أهدافها المفصلية، وتعتبر صحيفة النيل التي كان يرعاها السيد عبد الرحمن المهدي، وصحيفة صوت السودان التي كانت تجد الرعاية من السيد علي الميرغني، النواة الأولى للصحافة الحزبية والسودانية، لكن الميلاد الحقيقي للصحافة الحزبية السياسية كان صدور صحيفة الأمة التي صدرت في مايو 1945 الأمر الذي شجع حزب الأشقاء والحزب الشيوعي على إصدار صحف تعبر عنهما، وهو الحال مع الإخوان المسلمين الذين أصدروا صحيفة باسمهم أيضاً، قبل أن يقوم الجنرال عبود بإغلاقها، لتظهر لاحقًا باسم “الميثاق” عقب ثورة أكتوبر.

ولكن الناظر إلى الوراء قليلاً وبعد الاستقلال يجد ومع استيلاء أول نظام عسكري على السلطة في العام 1958م للفريق إبراهيم عبود تم تعطيل الأحزاب ومباشرة تعطلت الصحافة، وأصدرت حكومته صحيفة (الثورة) التي رأس تحريرها عبد الله رجب، قيلي أحمد عمر، وفضل الله محمد واستمرت حتى عام 1964، وبعد ذلك ظهرت الصحف المستقلة والحزبية عقب ثورة أكتوبر 1964م إلى أن توقفت عقب نظام مايو، فحينها كان الرئيس جعفر نميري قد أمم الصحف في 1970م، ومنع صدور الصحافة الحزبية، وأبقى على الصحافة والأيام والقوات المسلحة، باعتبارهما إحدى أدوات الدولة. وتم ضم الصحف للاتحاد الاشتراكي وتم التخطيط ليكون العمل الصحفي عامة ملائماً لإطار أيديولوجية السلطة الحاكمة.

وفي العهود الديمقراطية استفادت الصحافة من مراحل التحول الديمقراطي وبرز عدد من الصحف كانت تعبر عن الأحزاب، مثل الراية التي تعبر عن الجهة الإسلامية القومية، وصوت الأمة التي تعبر عن حزب الأمة، والاتحادي لسان حال الحزب الاتحادي، والميدان لسان حال الحزب الشيوعي، بجانب الأسبوع والسوداني المستقلتين.

ولكن لم يدم هذا الوضع طويلاً فقد وضع انقلاب الإنقاذ حداً لتلك الفترة وقام بتأميم الصحف، وقامت الحكومة بإصدار صحيفة السودان الحديث أغسطس 1989م وفي مارس 1990 أصدرت صحيفة “الإنقاذ الوطني”.

وبعد إجازة قانون الصحافة من جانب المجلس الوطني (البرلمان) صدرت صحف جديدة كـ(الوطن)، السوداني، أخبار اليوم والوفاق والشارع السياسي والسودان الحديث، وكذلك عاودت الصحف الأولى كالرأي العام، الأيام والصحافة الصدور.

إذن الانقلابات العسكرية في 1958 و1969 و1989م كان أول قراراتها تعطيل الصحف السودانية باعتبارها ذات نفوذ وتأثير قوي في قيادة الرأي العام السوداني. فهل زالت المسببات التي منعت ظهور الصحافة الحزبية؟

تجيب هنادي الصديق رئيس تحرير صحيفة حزب المؤتمر السوداني أنهم تقدموا بطلب لمجلس الصحافة قبل الحوار الوطني وتمت الموافقة دون أي صعوبات بل هنالك تعاون كبير على حد تعبيرها. بيد أن هنادي عادت وأخذت على المجلس مقدار الرسوم المقررة والذي يفوق طاقة الأحزاب باعتباره أامراً تعجيزياً وقالت في حديثها لـ(الصيحة) إن الصحيفة الغرض الأساسي منها ليس الاستثمار وإنما هي عبارة عن قناة حزبية لطرح برنامج حزبي واضح من نواحٍ سياسية واقتصادية بكافة الأشكال التحريرية ويحتمل الرأي والرأي الآخر، واضعين في الاعتبار أنه قد تجابههم بعض الصعوبات من إيقاف ومنع إعلانات وما إلى ذلك، لكن بما أننا نريد أن نحقق أهدافنا فلابد أن نقف بقوة وإذا لم يحدث ذلك لن نتطور إلى الأمام لذلك لابد من تضحيات، خصوصاً أن هناك شباباً ودماءً حارة وكادرا إعلامياً جيداً لديه المقدرة على الخوض في هذه التجربة.

ثم تحدثت مضيفة بأن القارئ في أشد الشوق لسماع الرأي الآخر، باعتبار أن أغلب الصحف موالية، وعلى الأحزاب الموجودة أن تسعى ما في وسعها لتعمل على خلق قنوات حتى تستطيع توصيل صوتها وصوت المواطن رغم الحصار المفروض لأن هذا هو الوقت المناسب.

بينما يرى الكاتب الصحفي فيصل محمد صالح في حديثه لـ(الصيحة) إن صدور الصحف الحزبية يعتبر خطوة إيجابية جداً باعتبار أن الصحيفة تعد من أهم أدوات التواصل، وأضاف: من الإيجابيات أيضاً أنها ستساعد في انتشار الأدب السياسي وتعريف الناس بالأحزاب ومواقفها إضافة إلى ذلك أن التنوع في النشر الصحفي يثري ساحة القراءة باعتبار أن الصحف متشابهة في الأخبار والمواد، لافتاً الى أن وجود صحف حزبية يكسر حدة التشابه، فالتنوع في المادة للقارئ تحفز مقدرته على الاختيار، منوهاً إلى أن الصحف الحزبية تساهم في تطوير وزيادة مساحة الحريات، وهذا يعني كافتراض أولي أن هذه الصحف بالطبع ستكون على خط مغاير.

ويقول فيصل إن ذلك يتطلب من الأجهزة الأمنية توسيع مفهوم العمل الصحفي وترك مساحة أكبر لتعبر عن نفسها باعتبار أن 80% من المادة المكتوبة ستكون في اتجاه مختلف للحكومة، لذلك لابد من توسيع مساحة الحريات، وأضاف: هنا لابد من خيارن، إما أن تجفف المادة الصحفية وتصبح الصحيفة الحزبية مشابهة للصحف الحالية أو تختلف الصحيفة وتجهض التجربة تدريجياً، أما من الناحية المهنية فإن هناك فرقاً بين النشرة والمادة الصحفية، لذلك على الصحف أن تعتني بوجود كوادر مهنية يمكن الاعتماد عليها حتى لا تتحول الصحف إلى نشرات حزبية، وبالتالي لن تجد رواجاً، وأيضاً قبل القيام بذلك وجود تصور جيد ودراسة جدوى ووجود معايير مالية كافية واضعين في الاعتبار كل التحسبات بما فيها عدم تحقيق الأرباح المطلوبة.

وأكد الصحفي والقيادي البعثي محمد وداعة ضرورة وجود صحافة حزبية لبلد بها مئات الأحزاب ولا توجد بها صحف تعبر عن صوتها داعياً الأحزاب إلى أن تنظر لهذا الأمر بقدر من الاهتمام، فالصحافة ليست مادة الخبر أو وجهة النظر إنما هي مهمة توثيقية وذات برنامج واضح وتظل هي حلقة الوصل بين الحزب وجماهيره.

وقال وداعة لـ(الصيحة) إن الصحف الحزبية كصناعة لا تختلف عن الصحافة الأخرى، وهي لها نفس متطلبات الصدور التي يحددها القانون ولها نفس متطلبات البقاء كالقبول والانتشار، وعلى الصحافة الحزبية ألا تجنح للحزبية المفرطة، وأن تحمل رسالة مشتركة وتعبير حقيقي عن مشاكل الناس وهمومهم واحتياجاتهم وربما هذا يكون أحد أهم اسباب الاستمرار والنجاح، ومن جانب آخر على الحكومة ألا تضيق بمسألة الصحافة باعتبارها مكملة لشكل الحريات الذي تتحدث عنه الحكومة، وصدور صحافة حزبية ناجحة يعتبر اختبارا حقيقياً بالتزام الحكومة بالحريات والدستور، أما المشاكل التي تواجهها فهي ذات المشاكل التي تواجه الصحف القومية من تكلفة الصدور وتضييق الحريات والإيقاف والحرمان من الإعلان.

ثم تحدث مضيفاً بأن استمرار أي صحيفة يعود إلى خطها التحريري وقبولها لدى القارئ ومدى مسؤولية القائمين على أمرها. وختم وداعة حديثه بإصرارهم على إصدار صحيفة الحزب واضعين في الاعتبار كل المعيقات من إيقاف وإفلاس.

الفرصة مواتية

وبدوره رأى الكاتب الصحفي الدكتور النجيب آدم قمر الدين، أن الصحافة الحزبية تعبّر بشكل دقيق عن رؤية الأحزاب، وهو ما يجعل مصداقيتها على المحك، وقال لـ(الصيحة) إن الصحف الحزبية تفشل دائماً في اختبار المصداقية والموضوعية بانحيازها السافر إلى خط الحزب الذي تعبر عنه، خاصة أن كثيراً منها يقوم بتلوين الحقائق بما يتماشى ويتماهى مع رأي الحزب.

بيد أن قمر الدين عاد وأشار إلى أن يستطيع المراقبون والمهتمون أن يقولوا أنه لا يوجد داع لصدور الصحف الحزبية، فهناك من يرى أن الأحزاب لها رؤية تريد التعبير عنها، وربما لا يتوافر لها ذلك في الصحف المستقلة.

وعما إذا كانت هناك حرية كافية صدور الصحف الحزبية خاصة أنها تجنح إلى نقد السلطات بصورة كبيرة جداً، يقول دكتور النجيب إن السودان مقبل على مرحلة جديدة بعد الحوار الوطني، وهناك حكومة في الطريق، وهناك اتفاق على حرية العمل الصحافي والسياسي، لافتاً إلى أن الحكومة تحملت صحيفة الميدان في وقت لم تكن فيه حريات بالصورة الكافية، ولذلك يجب أن تتحملها الآن، مشدداً على ضرورة أن تلتزم الصحافة الحزبية بالنأي عن ما يضر البلاد، سواء أكان سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً أو أخلاقياً.

الخرطوم: آيات مبارك
صحيفة الصيحة