منوعات

أهلًا بك في عالم بلا عمل!

نشرت «الجارديان» البريطانية تقريرًا كتبه «ريان أفانت» يتناول إحدى القضايا التي ظهرت مع بداية الثورة الصناعية، وتطورت مع تغوُّل «الأتمتة» و«العولمة»، فمع الكثير من العمل العضلي يبدو أن الإحساس بالنجاح يكاد يختفي؛ لعدم توفير النظام العالمي الآن فرصًا للعمل بمعناه الحقيقي. العمل بعيدًا عن الشق العضلي، إنما الغاية التي يعمل الإنسان من أجلها؛ فيشعر بالنجاح بعد إتمامها. ويحاول تحليل مآلات النزعات الاجتماعية والاقتصادية من الساسة والإصلاحيين، إما في خلق مجتمعات أكثر فرقة عرقية؛ وبالتالي أكثر فقرًا، أو في نجاح الإصلاحيين في تحويل المجتمعات؛ لتصير أكثر تلاحمًا؛ باعتمادها على سياسات «راديكالية» في اعتدالها.

يقول الكاتب إننا نشهد بزوغ فجر عصر جديد، إلا أنه لم يتضح بعد هل سيكون عالم رائعًا أم مريعًا، فإذا نظرنا من حولنا نرى علامات التقدم التكنولوجي المبهرة الصعب إغفالها: سياراتٍ بلا سائق وطائرات بلا طيار جميعها كانت دربًا من دروب الخيال العلمي قبل عقود قليلة، ربما تظهر تلك التقنيات الآن بصورة عشوائية، لكن سرعان ما ستتحول لأمر شائع نشهده في كل المدن حول العالم.

عن طريق الهاتف الآن يمكنك طلب وجبة أو سيارة أو ترجمة قائمة طعام لا تفقه منها شيئًا، فضلًا عن تقنيات تسللت لغرف المعيشة تنتظر تلقي الأوامر الصوتية، «أمازون إيكو» على سبيل المثال.

يحاول الكاتب استعراض كيف تغير العصر الرقمي، فمنذ سنوات قليلة، كان يوصف بأنه يتكون من مجموعة شبكات اجتماعية وفيديوهات عن الحيوانات المنزلية، لكن لم يعد الحال كذلك الآن. نجد الآن العديد من المؤسسات السياسية الأساسية في العالم تبدو غير مستقرة على نحو خطير؛ فبريطانيا على سبيل المثال على وشك الخروج من الاتحاد الأوروبي، والجمهوريون في أمريكا رشحوا للانتخابات الرئاسية رجلًا لا يلقي بالًا للأعراف أو المعايير الدولية، ولا يعبأ كثيرًا، حتى بالدستور الأمريكي.

«ما يهم الآن – على الرغم من أنه ما يزال غير واضح – أن هاتين الموجتين المتمثلين في الميل نحو عصر رقمي جديد من ناحية، ومن الأخرى السقوط في ظلمة سياسية، هما أمران وثيقا الصلة ببعضهما».

يقول الكاتب إن التاريخ يوضح أن فترات التغيرات الاقتصادية الكبيرة هي أيضًا أوقات الصعوبات السياسية والاجتماعية، لذا يجب علينا إدراك أن الوقت الحاضر ليس باستثناء، إنما فشلنا في معرفة ومعالجة الصعوبات التي خلقتها الثورة الرقمية هي التي هرعت بنا إلى تلك اللحظة السياسية المضطربة. وربما ستتبعها العديد من الاضطرابات أيضًا. ويضيف أن الثورة الرقمية بدأت تعلمنا كيف يكون التحول الاقتصادي التكتوني، فهو يضعنا مكان أسلاف أجدادنا؛ الذين اختبروا لأول مرة مرور الصوت البشري خلال السلك الكهربائي، والذين شهدوا تقلص وقت السفر بين المدن من استغراقه أسابيع إلى ساعات قليلة، كما استبدلوا بماكينات متقدمة مذهلة الآلات القديمة في أعمال الصلب والحرث. فقد شهدنا جميعًا كيف تحولت حياتنا العملية بتلك التقنيات.

وبعيدًا عن هذا التحول المذكور سابقًا يرى الكاتب أن الثورة الإقتصادية اليوم تنتج قلقًا – وليس مجرد شكوك وعدم يقين – حول التوظيف في السنوات المقبلة، فمن المرجح أن أولئك الذين يتمتعون بأمان وظيفي الآن، ينتظرهم مستوى دخل أقل مما كانوا يطمحون إليه. فعلى مر العقدين الماضيين نلاحظ أن الأجور التي تغيرت بما يواكب التضخم نمت ببطء في قطاع واسع من الدولة الغنية، وفي البعض الآخر استغرقت مدى أطول. صاحب هذا الركود في الأجور بعض الاتجاهات المؤلمة الأخرى، فقد انخفضت أسهم الدخل المتدفقة للعمال في مقابل الأعمال وأصحاب الممتلكات، وظهر تفاوت كبير بين العمال، فضلًا عن تجلي اللامساواة، خاصة مع ذهاب أسهم الدخل لأولئك الأعلى أجورًا؛ مما أدى إلى زيادة أجورهم بطريقة مذهلة، في مقابل العمال الأقل دخلًا.

أضف إلى ذلك البيانات الواقعية عن العمل والتوظيف، ففي الولايات المتحدة الأمريكية، انخفضت بشدة حصة الرجال البالغين في سن العمل الأساسي الذين يعملون أو يبحثون بهمة عن عمل، فضلا عن أنه في بعض الحالات على مدى الجيل الماضي انخفضت بشكل مأساوي. أما عن النسبة بين الرجال كافة، نجد أن العمالة قد انخفضت من 79% في عام 1990 إلى 69% في عام 2015. يصف الكاتب هذا الانخفاض أنه:

«ربما لا يبدو هذا مدعاة للقلق على وجه الخصوص، لكنه يمثل فارقًا لحوالي 9 مليون رجل»

يوصف الكاتب ذلك الفارق قائلًا إن أولئك الذين يحرمون من وظائفهم غالبًا ما يرون أن حياتهم قد انقلبت راسًا على عقب، عالقين في مجتمعات ضامرة باحتمالات ضئيلة، ويعاني الكثيرون منهم لكي يجدوا مغزًى للحياة والرضا فيها، والذي تسبب في زيادة حالات الانتحار وتعاطي المشروبات الكحولية أو الإفراط في تناول المخدرات، وهو في الحقيقة مؤشر منذر بالخطر أظهره أحد الأبحاث التي أجريت على الوفيات بين الرجال الأمريكيين البيض متوسطي العمر منذ عام 1990، إذ يرى القائمون على الدراسة أن أحد أهم العوامل المؤثرة في زيادة نسبة الوفيات و الانتحار وتعاطي المخدرات هو انعدام الأمن الاقتصادي باعتباره عاملًا مساعدًا.

إلا أن ذلك الاتجاه ليس قاصرًا على الولايات المتحدة الأمريكية فقط كما لا يمكن تفسيره بمعزل باعتبار أنه نتاج الشيخوخة والتقاعد. ففي أوروبا واحد من كل خمسة أشخاص بالغين تحت عمر 25 سنة يكون عاطلًا . أما في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يوجد حوالي 12% من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 لا يدرسون ولا يعملون، بعضهم ينخرط في نشاطات غير مشروعة أو يحتجز في السجن، والبعض الآخر يقبعون منازلهم يلعبون ألعاب الفيديو، وينطبق الحال نفسه على البطالة طويلة المدى، الكثير من العاطلين عن العمل من كبار السن من الرجال ليس لديهم تعليم عال تتخبط بهم الأحوال، وغالبًا ما يسقطون فريسة لشرب الخمر؛ حتى ينسوا مأساتهم، ويمر يومهم، دون أدنى اتصال مع مجتمعهم بمعناه الأشمل.

يذكر الكاتب أنه لعدد ضخم من الناس، لم يعد العمل شيئا يعتمد عليه، ولم يعد مثمرًا في مساهمته في تحقيق الأمن المادي، لكن المال ليس الوسيلة الوحيدة التي نحصل من خلالها على احتياجاتنا من الطعام، فهو أيضًا مصدر للهوية، إذ يساعد في خلق هيكل أيامنا وحياتنا، ويتيح إمكانية تحقيق الذات التي تأتي من كوننا ذوي فائدة لمن حولنا، وهو جزء مهم من الغراء الذي يربط المجتمع معًا، ويجعله يعمل بسلاسة، لكن على مدى الجيل الماضي، صار العمل أقل فعالية من ذي قبل في أداء هذه الأدوار، و بالتالي شكل ضغطًا على الخدمات الحكومية والميزانية، وساهم في دفعها لاتخاذ سياسات أكثر سمية وأقل سخاء، وفي الوقت نفسه، فإن مسيرة التقدم التكنولوجي مستمرة مضيفةً توترًا للتوتر والمأساة الموجودة بالفعل.

يذكر الكاتب أن الثورة الرقمية أدت إلى تغيير شكل العمل من ثلاثة أوجه: أولها من خلال «الأتمتة»، إذ حلت التكنولوجيا الحديثة محل العمالة التقليدية في كافة المجالات، من الأعمال الكتابية إلى أعمال اللحام، ناهيك عن أنها سوف تحل محل أعمال أكثر في المستقبل، كالسائقين ومؤدي المعاملات القانونية.
العولمة

وفي ذات الوقت، دعمت الثورة الرقمية بشكل كبير العامل الثاني، وهو «العولمة»، إذ كان من المستحيل تقريبًا على الشركات الغربية الغنية أن تدير سلاسل الإمداد العالمية مترامية الأطراف، والتي تغطي كافة أنحاء العالم على مدى العشرين سنة الماضية بدون تكنولوجيا معلوماتية قوية. وبينما أصبحت الصين وغيرها من الأسواق الناشئة، أفضل اندماجًا في الأسواق العالمية، حتى بدون شركات كبيرة مثل «أبل» تنشر منتجاتها في أنحاء العالم، كان من الممكن أن يكون نمو تلك الأسواق أبطأ بكثير، وأقل تأثيرًا ومفاجأة، إلا أن ما حدث كان مغايرًا، إذ تزايدت أعداد العمالة في العالم؛ لتتخطى حاجز المليار وظيفة على مدار الجيل الماضي، وكان معظم ذلك النمو في الاقتصادات الناشئة.
إنتاج عمالة عالية المهارة

أما عن الوجه الثالث، يقول الكاتب إن التكنولوجيا الحديثة توفر دفعة قوية «لإنتاج العمالة عالية المهارة»؛ إذ تمكنهم من أداء بعض الأعمال التي كانت تحتاج للكثير من العمال في إنجازها.

تساعد التكنولوجيا الفرق الصغيرة من مديري الأموال في إدارة كميات هائلة من الموارد المالية، على سبيل المثال فهي تسمح بشكل متزايد للمعلمين ذوي المهارات العالية تصميم دورات دراسية تمكن الطلاب من الاستفادة منها مرات عديدة، وربما تحل محل مئات، بل آلاف المحاضرين.

فضلًا عن أن التكنولوجيا الحديثة تمكن عددًا أقل من الأطباء والممرضين من متابعة وعلاج عدد أكبر من المرضى، وتمكن عددًا أقل من المحامين من الاطلاع على حجم كبير من الأدلة المرتبطة بالمحاكمات، كما تُمكن عددًا أقل من الباحثين من التدقيق في كميات هائلة من البيانات، واختبار عدد أكبر من الفرضيات بسرعة أكبر.

ويوضح الكاتب أنه من خلال الدمج بين تلك الاتجاهات الثلاث–الأتمتة والعولمة والغزارة الإنتاجية لعمالة ماهرة قليلة– في توليد وفرة في العمالة، ومن ثم ثروة بشرية كبيرة.

ويفسر ذلك أنه في خضم صراع الاقتصاد العالمي المحموم لتنظيم واستيعاب ذلك الحجم الهائل غير المسبوق من العمالة، أخفق الاقتصاد العالمي بشكل مثير للقلق في توجيه خطواته، إذ لم يعد في الإمكان الاعتماد على المؤسسات العمالية– بصرف النظر عن الأسرة التي تعتبر أهم لبنة في البنية الأساسية للمجتمع–في أداء العديد من أدوارها الحيوية، كتنظيم أيام العمل، وتوزيع القوة الشرائية، وتعزيز الروابط الاجتماعية التي يقويها شعور الأفراد أنهم يساهمون بإيجابية في المجتمع.

من المستبعد أن يتلقى العمال كل تلك الأزمات ولا يحركوا ساكنًا، إذ لابد من وجود حل ما، فإما أن يجد المجتمع السبل لدعم العمل – أو إيجاد بعض البدائل – أو أن يلجأ العمال لاستخدام النظام السياسي لتقويض القوى التي دمرت عالمهم.

من المفترض أن تكون مشكلة الوفرة في الأيدي العالمة مشكلةً جيدة نافعة للبشرية، فإذا اعتبرنا وفرة الأيدي العاملة هي حقًا مشكلة التقدم التكنولوجي، فهي بداية نهاية الحاجة الكد في العمل للبقاء على قيد الحياة. ففي نظام حيث يسعى الناس بهمة للحصول على عمل لا يفضلونه على الإطلاق – مثل وظائف مراكز تلقي شكاوى العملاء أو حمل الحمولات في المستودعات الحارة – ليس بمجتمع من المفترض أنه يسعى للبقاء بما يتجاوز الحاجة التكنولوجية.

ومع ذلك، لا يعتبر الجزء الأصعب في إيجاد المدينة الفاضلة هو كيفية زيادة الإنتاج، فقد نجحنا في ذلك الأمر، وإنما الجزء الأصعب هو كيفية إعادة توزيع الدخول، إذ إن خلق التوازن بين العمل وإعادة توزيع الدخل يعتبر مشكلة مستمرة وصعبة بشكل كبير، فالأغنياء وأصحاب الأموال لا يريدون دعم الفقراء، ما قد يدفع الفقراء لاستنتاج استحالة كبر حجم ما يتيحه الأغنياء من إعادة لتوزيع الدخول، والذي أدى إلى نشوء الفجوة الجائرة في دخول من يملكون ومن لا يملكون.

وربما لن يسعد الفقراء بنظام اقتصادي حيث صار وجودهم غير ضروري ومهمش، لاسيما من خلال الدعم الذي يتلقونه من الدولة.

يقول الكاتب إنه إذا أُديرت عملية إعادة توزيع الدخول بصورة فوضوية، قد يسبب ذلك فقد الأفراد لدافع المهارة في العمل، أو فقد طموح الأفراد للعمل من أجل تحسين الوضع الاقتصادي، وهو ما يؤدي إلى توقف النمو الاقتصادي، وتقلص الفائض الاجتماعي الذي يساعد كافة أفراد المجتمع على رفع مستوى معيشتهم.

لقد لاحت بالأفق بالفعل بوادر اضطرابات اجتماعية كبيرة، قد تكون تلك الأسئلة أحد مؤشراتها، لمن يرجع الفضل في ذلك النماء الاقتصادي؟ ومن صاحب الحق في المطالبة بنصيبه في تلك الثروة بعد نشوئها؟

يعتقد العديد من الأشخاص الذين يجنون أعلى مستويات الدخول –في أمريكا على وجه الخصوص– أنهم أعلى ممولي الحصيلة الضريبية في المجتمع، في حين أن المفهوم العالمي للممول والمتلقي يهمل الأساس الاجتماعي الذي بنيت عليه الثروة.

لا يمكن تقسيم المجتمع ببساطة إلى ممول ومتلقي، فكل أفراد المجتمع تتعامل وفقًا توافق اجتماعي كبير، وعندما ينهار هذا التوافق الاجتماعي، تضيع الثروة، فإما أن يتوافق المجتمع على نهج معين يلقى قبول الغالبية العظمى من أفراده لتقاسم الثروة، وإما أن ينهار النظام، وتتقلص ثروة المجتمع المتاحة لكل فرد.

تعد الطبيعة الاجتماعية للثروة شيء مهم للغاية بشكل مستمر ومتزايد؛ فقد أدى الاهتمام المستمر لفترة طويلة بالتنمية الثقافية في نهاية المطاف إلى الثورة الصناعية، والتي تتضمن أشكال عدة تعلمتها الإنسانية لهيكلة المجتمع أفضل من أي وقت مضى، من أجل رعاية نشوء الأنشطة الاقتصادية المعقدة.

وهنا يؤكد الكاتب على أن «الثورة الرقمية تزيد من أهمية الثروة الاجتماعية من خلال طريقتين أساستين».

أولًا: تزيد التكنولوجيا الحديثة من إمكانية الإنتاجية المحتملة للمجتمع ومخرجاته؛ لأننا أصبحنا مؤهلين لكي نكون أكثر ثراءً بفضل التكنولوجيا الرقمية، فمعدل العائد الاقتصادي للمؤسسات الاقتصادية الأساسية في المجتمع يتزايد، كقدرة الحكومة على فرض حقوق الملكية الخاصة، فضلًا عن اتساع الفجوة بين دخول المجتمعات القادرة على دعم تلك المؤسسات، وبين المجتمعات غير القادرة على النمو.

فقد كان الأمريكيون أكثر ثراءً من مواطني أفريقيا الوسطى بـ 30 ضعف في عام 1980، بينما في عام 2015، أصبحوا أكثر ثراءً منهم بـ 90 ضعف.

ثانيًا:صارت الآن العمليات الاقتصادية المحدودة التي تولد معرفة جديدة وتحويلها إلى أنشطة ربحية، مُكدسة للثروة ذات طبيعة اجتماعية أكثر من كونها ذات طبيعة فردية. بينما كانت العناصر التي تصنع قيمة الشركات الناجحة فيما مضى عناصر ملموسة على نحو مُرضٍ، إذ كانت تتألف من المباني والآلات والامتيازات والعمال، لم تعد كذلك الآن.

يقول الكاتب إن ثقافة الشركات التي تحدد حوافز العمال، وتقرر كيفية تعامل الشركة مع تغيرات السوق، صارت هي الأكثر أهمية في العصر الرقمي.

حاليًا، يوجد أكثر من 80% من قيمة شركة «ستاندرد آند بورز 500» غير ملموسة، بينما الأغراض المادية للشركة وحسابات الأجور لا تزيد عن 20%، على عكس ما كان سائدًا في السبعينات من القرن الماضي، وهو ما يجعلنا نطلق على التحول من القيمة الملموسة إلى غير الملموسة بالخلطة السرية للنجاح.

ويضيف الكاتب أن هناك حجمًا كبيرًا من العوامل المحفوظة طي الكتمان غير محددٍ الملامح لكيفية تحول الشركات إلى غير ملموسة، مثل ثقافة الشركة، والحوافز والمعرفة الضمنية التي تمكن الشركات الحديثة من النجاح السريع، فالشركات الناجحة، مثل «جولدمان ساكس» و«بازفييد»، استطاعت تطوير طرقٍ تجمع بين المعالجة والتحرك بناءًا على المعلومة الحيوية لنجاح الشركة، والتي لا يمكن تكرارها بسهولة.

القيمة الناتجة عن ثقافة الشركة تشبه تمامًا القيمة الناتجة عن شبكات التواصل بين الناس في المدن، أو بين المؤسسات الاقتصادية للبلد، فهي اجتماعية أكثر منها فردية.

كلما ازدادت أهمية الثروة الاجتماعية، تزداد صراعات الانتماء لـمجتمعات بعينها، من أجل الحصول على حصة من تلك الثروة الاجتماعية، ولكي تحقق الدول الاستفادة القصوى من مقدراتها، يجب أن تقاسم الثروة الاجتماعية بشكل أفضل، وتصبح الدول أكثر كفاءة في تقاسم الثروة الاجتماعية بين أعضاء المجتمع، كلما ازداد الضغط لتقليص دائرة عضوية هذا المجتمع.
الأحزاب السياسية الانفصالية والقومية آخذة في الازدياد في جميع أنحاء أوروبا

يقول الكاتب: إن الاضطرابات السياسية اليوم تعكس الجدل المجتمعي المتبادل، والذي يتخطى واجبات الدولة والاقتصاد، تجاه رعاياها في العصر الرقمي. إذا ما اقتفينا أثر الحقبة الصناعية في ذلك، فإن هذه النقاشات ستستمر لعقود قادمة، وقد تؤدي في بعض الأحيان إلى أحداث غير متوقعة، قد تصل إلى العنف في تغيير هيكل السياسات العالمية.

ويضيف أن النظم السياسية لديها مقاومة عنيدة للتغيير، مفسرًا أن الأحزاب السياسية هي المؤسسات الاجتماعية الكبيرة التي تناضل لعقود وربما لقرون، من خلال بناء العلاقات الاجتماعية مع مجموعات متنوعة من جماعات المصالح الصغيرة والأفراد، والحفاظ على تلك العلاقات.

هؤلاء الأفراد وجماعات المصالح يسعون لتحديد هويتهم السياسية من خلال ارتباطهم بالحزب، إذ إنه لا يتم إعادة تحديد الهويات لمجرد رغبة عابرة، فبعض التغيرات طويلة الأجل في الأساسيات الاقتصادية تحدث بالقوة في نهاية المطاف.

ويوضح الكاتب هنا أن الهيكل السياسي في أمريكا يفضل بشكل كبير نظام الحزبين، وهو ما أدى إلى وقوع الفصائل المتعصبة النامية في شراك الاستقطاب الحزبي، كما أن المعارك الحزبية الداخلية حامية الوطيس من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى خلافات كبيرة يتعذر حلها؛ ما قد يدفع حزبًا كبيرًا إلى التخلي عن الأمر كليًا، أو أن يتفكك، مثل هذه التحولات نادرة الحدوث جدًا في السياسة الأمريكية، ولكن مع التزايد المحتمل لسيطرة بعض المعسكرات الأيديولوجية في الحزب الجمهوري، مثل أولئك المفعمين بالحس القومي، سيأتي يوم من الأيام ليسيطروا على قيادة الحزب، ويزيحوا القادة المؤسسين السابقين.

غالبًاً سيتأقلم المؤسسون السابقون مع النظام الجديد، وهو التصرف الأسهل لأغلب مناصري الحزب، بدلًاً من الوقوف في وجه القادة الجدد . أما الأحزاب الانفصالية والقومية الآخذة في الصعود في كافة أنحاء أوروبا، ومن أكثرها تفوقًا هي الجبهة الوطنية «لوبان» في فرنسا، بالإضافة إلى أن الأحزاب ال«راديكالية» في المجر وبولندا تطمح هي الأخرى في تغيير سياسي جذري، لتقويض المؤسسات الديمقراطية القائمة، وللتحرك بمعزل عن الاتحاد الأوروبي، أما في بريطانيا، فإن العناصر السياسية القومية داخل حزب استقلال المملكة المتحدة وحزب المحافظين قد أبهروا العالم من خلال الدعوة والفوز بالتصويت الشعبي لصالح انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهذا الانسحاب من شأنه أن يشجع القوميين الأسكتلنديين على المطالبة في النهاية بالاستقلال عن المملكة المتحدة.

ويضيف الكاتب أن الفصائل والأحزاب الراديكالية التي تصارع باستماتة على الصدارة لديها تصورًا خاصًا لمفهوم الحياة السعيدة أو الجيدة، فالكُتاب والمفكرون أمثال الكاتب يحاولون تخيل «يوتوبيا» ما بعد العمل، على سبيل المثال، قد تستطيع هياكل شبكات الأمان الاجتماعي أن تحرر الناس من القيود النمطية للعمل بعقلانية، وبالتالي يمكن لأولئك الناس أن يعرضوا تقديم خدماتهم وفقًا لنظام العمل بالساعة، أو يعملوا وفق تطبيقات استحدثها سوق العمل، أو وفق أسس نظام آخر، أو حتى قد يتخلون عن أسواق العمل تمامًا، من خلال تشجيع الناس على التطوع بأوقاتهم لصالح المجتمع كأحد الأنماط الجديدة للمؤسسة الاجتماعية، بينما أيضًا يتعايشون جنبًا إلى جنب مع أناس يختلفون عنهم في ثقافاتهم وجنسياتهم.

لكن الكاتب يرى أن ما سبق ليس هو التصور النمطي لدى المواطن في العالم الغني عن الحياة الجيدة، على الرغم من أن كثيرًا من المواطنين في العالم يريدون هذا النمط تحديدًا، ربما علينا أن نفترض أن الناخبين في العديد من البلدان الغنية والفقيرة على السواء يتوقعون شيئًا أكبر، أكبر من مجرد حياة تحكمها تطبيقات توفق بين العرض والطلب، حياة ليست مؤسسة بالكامل على الإعانات المستدامة، حياة أكثر أريحية وألفة من تلك الحياة المحاطة بأناس يختلفون عنهم في لغتهم وعباداتهم وطرق حياتهم.

فأي مستقبل يتضمن تكنولوجيا تحرر العمال من الحاجة لقضاء أغلب يومهم في وظيفة، سيختار الناس فيه قضاء أوقاتهم فيما لا طائل منه، ومع ذلك يبدو أن الناس من من مختلف الخلفيات يقدرون خطاب الطموح الشخصي والمسؤولية، فهم يأملون لو أن لديهم سيطرة على حياتهم الاقتصادية وأن يساهموا في بناء المجتمع، فضلًا عن رعاية عائلاتهم، فالناس باختصار يرغبون في الإدارة والتمثيل.

هم لا يرغبون في أن يرغموا على مزاولة عمل بغيض من أجل إطعام عائلاتهم، لكنهم أيضًا لا يودون أن يثقلوا بالديون، ليس واضحًا إذا ما كان بإمكان الاقتصاد الرقمي أن يوفر ظروف العمل المطلوبة لتمديد احتمالية الراحة البرجوازية، ومكانة اجتماعية لقطاع عريض من الناس، لكن من المؤكد أن ذلك لن يمنعهم من الرغبة فيها، فالصراع بين ما يريده الناس وما تستطيع الأنظمة السياسية والاقتصادية تقديمه سيتطور بشكل ملحوظ في الساحة السياسية.

بالتأكيد ستبرز المعارك السياسية بشكل متزايد الخطاب بشأن سبل العودة لعالم حيث الناس يعملون في وظائف عمل مربحة تعود عليهم بالرخاء مادي، تلك الخطابات سترتع في وجود القوى الحاقدة الخبيثة التي تنكر حق الناخبين في الوصول لتلك «الحياة الجيدة». يرى الكاتب أن عوامل، مثل تآمر الحكومات الأجنبية والمهاجرين الذين يسرقون الوظائف، والمصرفيين الجشعان والسياسيين الضعاف، كلهم يلعبون دورًا في هذا الخطاب، فالديمقراطية يمكن أن تشكل قوة سياسية إلزامية ساحرة.

«ستناضل سياسة الخدمات والرعاية الاجتماعية السخية من أجل أن تجد لنفسها مكانًا في مناطق التنوع العرقي»

يمكن للإصلاحيين أن يتنافسون في هذا المجال، إذ سيكون هناك المجال للقادة الذين على استعداد للتصريح بأنه لا يمكن استعادة «الحياة الجيدة» الموجودة في الذاكرة الضبابية، وعوضًا عن ذلك يعدون بدفع سياسات معتدلة تزايدية، مثل منافع ومستحقات من الدولة أكثر سخاءًا واستثمارات متزايدة في التدريب والبنية التحتية.

سيواجه الإصلاحيون الصعوبات وعلى رأسها محاولات الاقتصاد العالمي معاقبة هذه الجهود – جهودهم – فإن وفرة الأيدي العاملة وضعف الطلب الهيكلي ليست من القضايا التي يمكن للسياسيين المحليين الذين يعملون بمعزل عن المجتمع أن يصلحوها.

يمكن لهؤلاء الإصلاحيين أن يخففوا من وطأة أسوأ الآثار الناتجة، إلا أن ذلك سيترك خيبة أمل كبيرة لدى الناخبين.

سيفقد الإصلاحيون المعتدلون بعض النقاط لصالح السياسيين الساعين لهدم عناصر حقبة الاعتدال، كالسعي لتحرير التجارة، وتدفق رؤوس الأموال، والقضاء على حماية سوق العمل.

ويتساءل الكاتب هل من الممكن أن تستحدث دائرة انتخابية لمجموعة أكثر راديكالية / تطرفًا في ابتكاراتها السياسية، مثل مستوى دخل أساسي عالمي سخي. يتنامى الآن ميل سياسي تجاه هذا النوع من الإصلاحات، إلا أن سياسة الرفاهية والرعاية السخية، ربما تواجه صعوبات كي تظهر وتبزغ خارج الأماكن حيث الوحدات السياسية متلاحمة، سواء على النطاق العرقي أو القومي؛ حيث غياب الارتياب القبلي يسهل مشاركة الورة الاجتماعية. لا عجب أن سياسة الرعاية السخية التجريبية تجلت في البلدان الشمالية حيث الروابط العرقية والمجتمعية قوية، لكن في نفس الوقت بدأ الانفتاح على الهجرة في تقويض الإجماع المجتمعي.

إن انتشار إنشاء مثل هذه الجماعات المتماسكة في إطار الجهد المبذول لحماية شبكات الأمان الاجتماعي، تبدو في كثير من الأحيان هدفًا للسياسات القومية الجديدة.

بعض الدول التي انفصلت صوريًا، تريد أن تستفيد بالفوائد الاقتصادية الناتجة من الاندماج في الاقتصاد العالمي، بينما من يضع السياسات الأساسية ويتخذ القرارات الاقتصادية هي المجتمعات التي تتمتع بدرجة عالية من التماسك القومي أو العرقي، فعلى سبيل المثال، مستقبل كل من أيرلندا وإستونيا مرتبط ببريطانيا وأسبانيا، أي بالدول الأكبر التي تتمتع بتنوع سكاني أكبر.

أيضًا مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بل الاقتصاد العالمي ككل، لايُبنى على الدول المفتتة، فكل من قادة إيطاليا وبلجيكا وحتى ألمانيا، يعارضون التوقيع على انفصال كاتالونيا لأسباب منطقية؛ إذ سيقع على بلدانهم أضرار حتمية؛ نتيجة أي انفصال في المنطقة.

قد يدمر العالم الغني المفعم بالعرقية القومية التكامل الاقتصادي الذي يعتبر حجر الزاوية في ازدهاره، وحتى إذا نجح هذا العالم في مسعاه قبل أن يبدأ في نموذج إعادة توزيع الدخول المرتفعة، فإن الدويلات العرقية القومية ستعتمد في نجاحها على إقصاء الغرباء؛ وهو ما يؤدي إلى زيادة عدد الفقراء في العالم.

ويختتم الكاتب تقريره قائلًا «قد تظهر في المستقبل القريب سياسات جديدة رائعة توفر للجميع الحد الأدنى الجيد للمعيشة، بغض النظر عن العرق أو الجنسية، والتي تعزز العديد من المفاهيم المختلفة للحياة السعيدة، التي لا تُبنى على بعض المخاوف الكامنة من الغرباء للحفاظ على تأثيرها».

لا يمكننا حتى الآن تصور مثل هذا النظام، أو فهم توازنات احتياجات القوى السياسية للعمل على تحقيقه في أرض الواقع ودعمه.

في الوقت الراهن، نحن عالقون في عالم المقايضات السياسية البغيضة، ولا يسعنا إلا أن نأمل أن تحمل لنا تلك الفترة شيئًا واحدًا جيدَا ولو بشكل عابر، إلا أن التاريخ يشير إلى أنه لن يحدث، ولكن ربما يكون الحظ حليفنا.

 

 

ساسة بوست