معجزة اليابان.. كيف نهض العملاق الياباني؟! خمسة أسئلة تشرح لك
قبل أن تسأل نفسك (كيف أصبحت اليابان يابانًا؟) هناك سؤال تمهيدي مهم هو (كيف تولد الكهرباء من ربطات العنق؟!)
حسنًا، هناك دولة واحدة فقط في العالم يمكنها الجواب على هذا السؤال!
في صيف العام 2005 وجدت وزارة البيئة اليابانية أن معدل استهلاك الكهرباء في ارتفاع مستمر، وأن موارد الطاقة اليابانية تحتاج إلى ترشيد عاجل (على الرغم من أن معظمها – في ذلك الحين – كان نوويًا)، ولأن الجهاز الحكومي للدولة هو أحد أفضل الأجهزة الحكومية التكافلية – تعاون وزاراته بعضها البعض في ظل نظام دقيق – في العالم، قامت وزارة البيئة بتحمل المهمة والاضطلاع بها، وبدأت حملة تحت قيادة وزيرة البيئة حينها (يوريكو كويكي) والتي بالمناسبة أصبحت بعدها بعامين وزيرة للدفاع، حملة تدعى (Cool Biz).
تم وضع زمن محدد من يونيو إلى الثلاثين من سبتمبر كفترة تجربة يتم على أساسها اتخاذ قرار التكملة أو إلغاؤها، اعتمدت الحملة في فترة تجربتها على شقين، الأول مطالبة الموظفين اليابانيين الحكوميين ثم موظفي القطاع الخاص ثم عموم المواطنين بتثبيت درجة حرارة أي جهاز تكييف في اليابان على 28 وعدم خفضه درجة واحدة عن ذلك، أما الشق الثاني فتعلق بإجابة سؤال (كيف نمارس وظائفنا في درجة حرارة مرتفعة بتكييف مثبت على 28؟)، وأجابت الحكومة حينها أن الحل في عدم حضور أي موظف ياباني مرتديًا ملابسه الرسمية الكاملة (بذلة/ رابطة عنق) واستبدال ذلك بملابس قطنية خفيفة تساعد على تنفس مسام الجسم وتكون ماصة للرطوبة!
كان الطلب الأول (درجة برودة التكييف) بشعًا بما يكفي، لكن الثاني كان معاناة حقيقية بالنسبة لليابانيين واعتبروه علامة ضخمة على عدم التهذيب، وبعض أعضاء وزارة الخارجية اليابانية وبعض موظفي الشركات الخاصة اشتكوا من شعورهم بالدونية والإساءة لمن أمامهم من وفود أجنبية رسمية أو خاصة وهم يرتدون ملابسَ خفيفة صيفية بينما نظراؤهم يرتدون ملابسَ رسمية كاملة، وجزء مهم من حل المشكلة كان التزام أهم مسئولي الحكومة اليابانية بالحملة وشروطها وعلى رأسهم (جونيتشيرو كوريزومي) رئيس الوزراء وقتها.
في الثلاثين من سبتمبر خرجت النتائج للشعب الياباني، التزام عدد كبير من الشعب بالملابس الخفيفة أدى إلى التزامهم بدرجة حرارة 28 واحتمالهم لها، وجود ملايين المكيفات على هذه الدرجة أدى إلى تخفيض 460 ألف طن من إجمالي انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون بما يعادل حجم ثاني أوكسيد الكربون المنبعث من مليون أسرة يابانية، أما الكهرباء فقد تم توفير 210 مليون كيلو وات/ ساعة في الفترة من يونيو لآخر سبتمبر، وبالنسبة لتأثير الحملة الاقتصادي فقد أثـّرت بالسلب على قطاع صناعة رابطات العنق وتسببت في انخفاض مبيعات بنسبة 36% مما دعا بالقطاع إلى المطالبة بإنهاء الحملة وسط تجاهل تام له، وفي نفس الوقت أثـْرَت قطاع الملابس بـ18 مليار ين والاقتصاد الياباني كله بمائة مليار ين!
الحملة مستمرة بنجاح تام حتى الآن، وتعتبر إحدى أهم وأذكى حملات البيئة وأكثرها ابتكارية في العقود الأخيرة.
(1) كيف أنهى الميجي حكم الساموراي العسكري؟!
المتداول والمعروف بشكل واسع النطاق أن اليابان نهضت بمعجزة تنموية حقيقية بعد الحرب العالمية الثانية عندما ضربتها الولايات المتحدة بقنبلتين ذريتين فأنهت الاقتصاد الياباني إكلينيكيًا، حسنًا، ما حدث هو تعافي الاقتصاد وليس النهوض، فالنهوض الحقيقي بدأ من قبل الحرب بمائة عام تقريبًا.
في بدايات القرن السابع عشر وبعد أن استتب حكم اليابان لـ(إياسوا توكوجاوا) بدأ الرجل خطته لإرساء دعائم حكم له ولعائلته وقد نجح في هذا حتى وصولنا إلى منتصف القرن التاسع عشر وهو بداية نهضة اليابان الحقيقية، خطة توكوجاوا كانت واضحة وحولت اليابان لما يزيد عن مائتي عام لكوريا شمالية حالية، فحظر على اليابانيين السفر للخارج ومنعهم من بناء سفن عابرة للمحيطات وعامل – هو ومن خلفه في الحكم – الحملات التنصيرية الكاثوليكية بأشد أنواع التنكيل للمحافظة على انغلاق القوقعة اليابانية، وقد كان الأمر مفيدًا على عكس المتوقع في رفع درجة اندماج وتفرد السكان اجتماعيًا، هذا التماسك الذي استخدمه (ميجي) فيما بعد في ثورته.
بداية النهضة الفعلية كانت عندما أتى الإمبراطور (موتسوهيتو) الذي عرف بـ(الميجي) أو (الحاكم المستنير) للحكم في يناير عام 1868 وقاد حركة إصلاحية ثورية – بمقاييس عصره – قامت على مبدأ واحد هو (بلد غني وجيش قوي)، وكان اليابانيون في هذا الحين يتابعون التمزيق التام للصين أثناء حروب الأفيون من قبل قوى أوروبا وعلى رأسها المملكة المتحدة (بريطانيا)، لذلك ولتجنب هذا المصير أدركوا أن الهدف الأساسي ينبغي أن يكون (سد الفجوة الاقتصادية والعسكرية بينهم وبين الغرب).
كسرت حركة الميجي الإصلاحية عزلة البلاد وبدأت في حركة انفتاح تجارية وعلمية، ففتحت الموانئ البحرية بشكل كامل وألغت الإقطاعيات العسكرية وبدأت في تقليص نفوذ الساموراي وتجريدهم من امتيازاتهم حتى استطاعت أن تنهي تحكم الطبقة العسكرية في اليابان في ظرف ثماني سنوات تقريبًا، في نفس الوقت سمحت الحركة للفلاحين للمرة الأولى منذ أكثر من قرنين بامتلاك الأراضي الزراعية وإنتاجها مما ساهم في تكوين طبقة فلاحين منتجين، وقامت بإدخال ثورة حقيقية على نظام التعليم، كل ذلك لم يكن في ظروف مواتية وإنما قامت طبقة الإقطاعيين العسكرية والاجتماعية بمحاولة الانقلاب على الميجي مرتين في عام 1874 و1877، وفي المرتين نجح الإمبراطور في فرض سيطرته حتى انتهت الطبقة الديكتاتورية ودانت اليابان بالطاعة لموتسوهيتو.
كانت حركة الانفتاح في مجملها على مرحلتين، الأولى هي التوجه للقارة الأوروبية لأخذ ما يساعد نظاميًا الهرم الياباني الناشئ، فتمت الاستعانة بنظام الشرطة والتعليم الفرنسيين والنظام الإداري (الحكومي) الألماني، ثم كانت المرحلة الثانية فيما بعد الحرب العالمية الأولى والتوجه للولايات المتحدة لرفع كفاءة القطاع الصناعي والتوسع الاقتصادي للشركات الكبرى العاملة ونقل الإدارة الصناعية والمعرفة التقنية لها.
أنتج هذا الاستنساخ الواعي في المرحلة الثانية تصاعدًا اقتصاديًا لأول قوة شرقية خارج نطاق القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة)، وتكون نسيج شديد التماسك من اتحاد الدولة بأجهزتها بقيادة إصلاحيي ميجي (العسكريين أيضًا) مع اتحاد شركات القطاع الخاص وهو اتحاد تكون من مجموعة ضخمة من الشركات الخاصة اليابانية العاملة في مجالات الصناعة والتجارة والشركات المالية مكونة فيما بينها ما عرف باتحاد (زايباتسوا) والذي هيمن حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية على نصف الأنشطة الاقتصادية في البلاد.
على مشارف نهاية الحرب العالمية الثانية، ومع انهيار ألمانيا النازية ودخول أربع دول بشكل رئيسي إليها ليقسموا كعكة برلين (فرنسا/ بريطانيا/ الولايات المتحدة/ الاتحاد السوفيتي)، ووقوع الصين بشكل أساسي تحت مطرقة الشيوعية، مع كل ذلك لم يتبق إلا اليابان كدولة شديدة الخصوصية ينبغي السيطرة عليها، في هذا الوقت وضعت الولايات المتحدة كل ثقلها الحربي في اليابان لتتسبب في أكبر مجازر حربية في التاريخ الحديث!
في البدء كان القصف الجوي المكثف على كل المدن اليابانية والذي تركز في شرق طوكيو متسببًا في مقتل مائة ألف ياباني مع تشريد مئات الآلاف الآخرين، ثم كانت قنبلة هيروشيما كأول تجربة أمريكية لسلاحها الذري الوليد والتي تسببت في مقتل مائة وعشرين ألفًا فورًا مع إصابة مئات الآلاف الآخرين، ثم تجربة نوع آخر على ناجازاكي ليُقتل ستون ألفًا على الفور أيضًا، كل ذلك كان شيئًا أقل مما فعلته الولايات المتحدة متبعة إحدى إستراتيجيتين لهزيمة الجيش الياباني عندما فرضت حصارًا بحريًا شاملًا على الدولة وهو السبب الرئيسي المؤدي لانهيار الاقتصاد الياباني حينها.
بعد توقيع الإمبراطور الياباني لوثيقة الاستسلام وتعيين الجنرال ماك آرثر حاكمًا فعليًا لليابان بدأت سنوات احتلال الولايات المتحدة لها (1951:1945)، العام الذي تلا كل هذه المذابح كان أحد أسوأ الأعوام في التاريخ الياباني، انهيار الاقتصاد تسبب في نقص حاد في الإنتاج والسلع والغذاء مما أنذر بمجاعات واسعة النطاق تتسبب في هلاك مئات الآلاف، انتشرت الأسواق السوداء مع ارتفاع هائل في الأسعار، ثم زادت الولايات المتحدة بتسريح الجيش الياباني بالكامل مما أدى إلى وجود ما يقارب الخمسة ملايين عاطل بجوار الآخرين، والعدد النهائي الذي كان مطلوبًا من الدولة اقتصاديًا استيعابه هو عشرة ملايين عاطل.
المثير للتأمل أنه لا المجاعة ولا البطالة حدثت، في البدء استوعب قطاعا (الزراعة/ الأعمال الحرفية) أغلب هذه الملايين مما ساهم في تخفيف حدة انهيار ما بعد الحرب، لكن التضخم بقي كما هو مع انتشار مخيف للأسواق السوداء، بالطبع مارست الولايات المتحدة هوايتها الأثيرة في التحكم عن طريق المساعدات، وتقريبًا من أهم دعائم نجاة اليابان في السنوات الخمس العجاف بعد الاستسلام هي المساعدات الأمريكية (مليار ونصف دولار من 1950:1945)، كل ذلك لم يكن له أن يستمر للأبد، وهنا بدأت البراعة اليابانية.
مرحلة أوكيتا وجوتو
قبل الهزيمة بشهر كان هناك شابان مسئولان منفصلان تمامًا عن الواقع، اليابان تنهار والولايات المتحدة توشك على دكها بالكامل والأرض الطيبة تتحول لأرض رعب مقيم، لكن الشابين وسط كل ذلك كانا يفكران في أشياء أخرى أهم ألف مرة.
قبل شهر من الاستسلام رأى (سابورو أوكيتا ويونوسوكي جوتو) أن الهزيمة آتية لا محالة وستجلب معها انهيارًا اقتصاديًا لا مفر منه، كان الاثنان يعملان مهندسيْ كهرباء في العاصمة الصينية بكين، لكنهما عندما شاهدا ما يحدث عادا إلى طوكيو ليبدآ التحضير لجلسات نقاشية أولية يتم فيها وضع خطة لتجاوز ما سيحدث اقتصاديًا، عقد الاجتماع الأول يوم 16 أغسطس لعام 1945 (بعد الهزيمة بيوم واحد فقط)، وفيه تمت مناقشة اتفاقية بريتون وودز التي كانت وقعت قبل الجلسة بعام في الولايات المتحدة ونتج عنها تثبيت الدولار كعملة قياسية وإنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
بمرور الوقت تحولت الجلسات من جلسات خاصة لجلسات عامة يحضرها أكاديميو وسياسيو اليابان لمناقشة إعادة الإعمار، وتولى أوكيتا وجوتو مهمة تلخيص نقاط كل جلسة نقاشية وتحويلها لتقرير كامل، بعد فترة أخرى تبنت الحكومة الجلسات رسميًا وضمتها وزارة الخارجية إليها تحت مسمى (لجنة المسح الخاصة).
في أواخر عام 1945 ظهرت المسودة الأولى لتقرير الجلسات الشامل، ثم ظهرت المسودة النهائية في مارس من 1946، ثم خضعت لتعديلات لتظهر نسخة التقرير النهائية في سبتمبر من نفس العام وكان عنوانها (المشكلات الأساسية لإعادة إعمار الاقتصاد الياباني)، تناول التقرير المشكلات والتحديات التي تواجه الاقتصاد مع توصيف دقيق جدًا للوضع الداخلي، ثم وضع إستراتيجية عامة لمواجهة كل المشكلات، ثم في مرحلة التقرير الثالثة وضعت توصيات التحرك لإعادة الإعمار بالتفصيل، مثل التقرير مثالًا بليغًا متداولًا حتى الآن على العقلية اليابانية الخلاقة، ومازالت اليابان تعمل ببعض توصياته الاقتصادية حتى لحظتنا هذه!
(3) كيف وصلت اليابان لعصـر النمـو المدهـش؟
في عالم ما قبل الحرب كان هناك طفل في مقاطعة هماماتسو ينحدر من أسرة شديدة الفقر، ابن لحداد وطالب من أفشل طلاب مدرسته، كان هذا الطفل يحب مراقبة والده وهو يعمل في ورشته وتعلم منه استخدام الأفران لصهر المعادن وصب القوالب، وعلى الرغم من فشله الدراسي إلا أنه كان مجنونًا بالميكانيكا ولذلك عندما فتح والده ورشة صغيرة لتصليح الدراجات الهوائية كان الطفل ذراعه الأيمن فيها، ثم أنهى دراسته الثانوية في الخامسة عشرة من عمره ليرحل إلى طوكيو ويعمل في شركة صغيرة لتصليح السيارات ويتطور عامًا بعد الآخر ليصل لرئاسة فرع الشركة في هماماتسو وهو في الحادية والعشرين فقط من العمر.
بعد عام واحد فقط ترك الشركة ليبدأ في تأسيس ورشته الخاصة في عام 1928، كانت مكابس السيارات في هذا الوقت تصنع من الخشب فبدأ هو باختراع مكابس معدنية للسيارات، عندما وجد أنه يحتاج للدراسة عاد إلى معهد المقاطعة الفني ليدرس فيه الهندسة الميكانيكية، ثم أنشأ ورشة لإنتاج بعض قطع السيارات لعملاق الصناعة اليابانية (تويوتا)، كانت الأمور تسير على ما يرام بالنسبة له حتى أتى العام 44 لتضرب قاذفة قنابل أمريكية ورشته ثم يكمل عليها زلزال في العام 45 بعد أن أنشأها مرة أخرى، لتنتهي الحرب العالمية الثانية بخسارته لكل شيء.
بعد الحرب، ترك الشاب مجال السيارات واتجه لسوق الدراجات النارية بالصدفة البحتة، في العام التالي مباشرة لقصف اليابان النووي أسس معهدًا للأبحاث التقنية والميكانيكية ثم بدأ في تطوير محركات للدراجات النارية، في هذا الوقت كانت هناك مائتان وخمسون شركة عاملة في اليابان في هذا المجال، بدأ بتصنيع أولى أجيال دراجته (Dream)، وبحملة تسويق عبقرية واستهداف مكثف لشرائح المراهقين والفتيات ممن يستخدمون الدراجات الهوائية استطاع بعد سنوات معدودة أن يصبح الشركة اليابانية الأولى في تصنيع الدراجات النارية، ثم لم يكتف بذلك وإنما ذهب للولايات المتحدة ليغزو السوق هناك في عقر دارهم واستطاع بعد عشر سنوات أخرى أن يصدر للولايات المتحدة مليون دراجة نارية في العام!
بالتوازي وفي بداية الستينات بدأ الشاب في الدخول إلى مجال صناعة السيارات، كان هذا المجال محرمًا في اليابان بشكل غير رسمي بعد فشل عشر شركات منذ العام 1925 في دخول السوق، لكن الشاب وببراعة وبدعم مطلق من وزارة التجارة الدولية بدأ تصنيع السيارات في إطار إستراتيجية الوزارة لرفع الصناعة اليابانية لتنافس نظيرتها الأمريكية، لتصبح شركته فيما بعد أحد أكبر ستة مصنعين للسيارات في العالم، والأولى عالميًا في تصنيع الدراجات النارية.
الشاب الذي يدعى (سويتشيرو) مؤسسًا لعلامة تجارية تقدر قيمتها الآن بما يفوق الستين مليار دولار كإحدى أكبر الشركات العالمية، الشركة التي تدعى (هوندا).
ما سبق هو تقريبًا نفس قصة آخرين بأسماء مختلفة، يشتركون كلهم في الظروف شديدة الصعوبة، في الفشل المستمر قبل النجاح، في خروجهم عن المألوف، وفي دعم الدولة لهم في حقبة الاتجاه الياباني للنمو السريع، وفي تأثيرهم بالغ الأهمية في فترة البناء الاقتصادي الياباني وإسهام شركاتهم في وصول اليابان في منتصف السبعينات وما بعد لأحد أقوى وأفضل الاقتصادات العالمية وأحد أهم منافسي الولايات المتحدة الأمريكية تكنولوجيًا، سويتشيرو مؤسسًا لهوندا، ماتسوشيتا مؤسسًا لشركة كهرباء ماتسو العالمية ليقدم للعالم (باناسونيك وناشيونال)، وماساروا إيبوكا وأكيو موريتا مؤسسا (سوني)، وغيرهم.
في الاقتصاد الياباني يطلق على فترة ما بعد انتهاء الحرب الكورية (1953) إلى أوائل العقد السبعيني فترة النمو المدهش الذي أوصل اليابان حينها لاحتلال المركز الثاني كأقوى اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة مباشرة بمعدل نمو مبهر بلغ 13.9%، في البداية كانت اليابان تعاني من مشكلات اقتصادية رئيسية، التضخم، انخفاض العملة، نقص الطاقة لاعتمادها التام على الفحم بينما اتجه العالم في تحول سريع لثورة النفط، التخلف التكنولوجي، انخفاض حاد في الصادرات.
كان أمام الشعب الياباني وحكومته خيارات قليلة جدًا وبديهية للتعامل مع الوضع، تخفيض قيمة العملة بشكل حاد، أو التقشف وانكماش الاقتصاد بالتالي، لكنّ اليابانيين اختاروا طريقًا ثالثًا بالغ الصعوبة وهو (تحسين الإنتاجية) مع استثمار فائق في القطاع التكنولوجي لمضاعفة الإنتاجية كمًّا مع هدف زيادة الجودة.
جزء كبير من التطور أيضًا يرجع للعام 1949 حيث تم دمج ثلاثة كيانات هم (وكالة الفحم، ووزارة التجارة والصناعة، ووكالة التجارة الدولية) ليظهر للنور كيان جديد هو (MITI) أو وزارة التجارة الدولية والصناعة التي ساهمت بشكل كبير في إعادة هيكلة الصناعات اليابانية بتعاون وثيق نادر بينها وبين القطاع الخاص ودفع هذه الصناعات وصولًا إلى منافسة الولايات المتحدة مباشرة.
عبقرية الـMITI تمثلت في إستراتيجيتها العامة التي اعتمدت بشكل رئيسي على الانتقائية، فكان الدعم الوثيق للسياسات الصناعية قائمًا على مفاضلة دقيقة بين الصناعات اليابانية المختلفة وقياس اتجاه العالم ثم دعم الصناعات المتوقع ارتفاع الطلب عليها كل عشر سنوات، ولذلك اهتمت الوزارة بشكل كامل بالصناعات الثقيلة والصناعات التكنولوجية والتقنية وقطاع الكهرباء والنقل، ما ساهم فيما بعد في خلق بنية تحتية أدت إلى ما نراه في اليابان اليوم.
متوسط دخل الفرد الياباني عندما بدأت طوكيو عصر نموها في 1950 كان 1/14 من متوسط دخل الأمريكي، أي أن الولايات المتحدة كانت تتقدم على اليابان بـ14 ضعفًا، نسبة مهولة جدًا، بعد عشر سنوات وفي 1960 انخفضت النسبة وأصبح متوسط دخل المواطن الياباني سنويًا 1/6 من متوسط دخل الأمريكي، ثم بعد عشر سنوات أخرى أصبح متوسط دخل الياباني 1/2.5 من متوسط دخل الأمريكي في 1970!
(4) ومتى دخلت طوكيو مرة أخرى الأزمة؟
بعد العام 1970 كانت اليابان قد حققت جزءًا كبيرًا من طموحها فيما يخص العالم الغربي، تجاوزت الفجوة وانتقلت من كونها دولة مستوردة للتكنولوجيا لدولة مصنعة لها، كان هذا أحد أهم أسباب التباطؤ، لأنه أثناء عملية اللحاق بالركب المتقدم يمكنك أن تستورد دائمًا النظم الجديدة والتكنولوجيا الغربية، لكن عندما تصبح جزءًا من هذا العالم لا يمكنك إلا أن تبدأ في تطوير المسار الخاص بك وابتكار تكنولوجيا جديدة، لن تستطيع أن تنسخ الآخرين مرة أخرى.
بعدها جاءت فترتان من الضعف الاقتصادي على اليابان في عشر سنوات فقط، إحداهما في 1974 والأخرى في 1979، الفترتان كانتا بسبب النفط وارتفاع سعره في الأولى من 2 إلى 11 دولارًا للبرميل الواحد وفي الثانية إلى 30 دولارًا للبرميل الواحد، وبسبب أن اليابان دولة مستوردة للنفط بنسبة 99.7% كانت الأزمة.
في المرة الأولى حدث ذعر استهلاكي وفرغت رفوف المحلات ونشط الاحتكار ومعه الأسواق السوداء، وسجلت اليابان حينها أول معدل نمو بالسالب (-0.8%)، العبقرية اليابانية تجلت في الخروج من كل ذلك بأقل الأضرار الممكنة، واتباع إستراتيجية تقتضي ترشيد استهلاك الطاقة بشكل لا يجعلها ثغرة في الجدار الحديدي الياباني مرة أخرى، فاتخذت الحكومة إجراءات للتحكم في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وأطلقت حملة قومية شاملة لتغيير سلوك الشعب فيما يخص الاستهلاك، وشجعت عمالقة الصناعة على أن يتجهوا لابتكار مصادر أوفر، ويتضح هذا في مثال هوندا الذي سبق العالم بأكمله لاختراع أول محرك سيارات صديق للبيئة وموفر للطاقة بدعم من الحكومة متقدمًا على فورد وجنرال موتورز الأكثر تطورًا في العالم حينها، بمرور الوقت تحول توفير الطاقة في اليابان لسلوك عام ونشاط اقتصادي مربح، لتأتي الأزمة الثانية في عام 1979 فتمر على اليابان بشكل طفيف جدًا غير مؤثر ومعدل تضخم قليل ومعدل نمو مستمر ومقبول.
الفترة من عام 1990 وحتى 2001 كانت أشبه بتحدٍّ بين الولايات المتحدة واليابان، دخلت طوكيو في هذه الفترة ما يسمى بـ(عصر الفقاعة) أو (العقد المفقود) حيث انخفضت قيمة الين ومعه معدل النمو ودخل الاقتصاد الياباني في مرحلة طويلة من الركود والتقلبات المالية لكنه خرج بتوازن وبلا انهيار لقوة البنية الاقتصادية.
(5) أين اليابان الآن؟
الاقتصاد الثالث عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين بدخل قومي يبلغ (4.901 تريليون دولار)، والثالثة على العالم في تصنيع السيارات ومع ذلك تمتلك الشركة الأكبر عالميًا في المجال (تويوتا)، الأولى عالميًا في صناعة الإلكترونيات، والدولة الدائنة الأكبر في العالم (الأكثر إقراضًا للدول الأخرى)، والدولة الثانية الأكبر في العالم امتلاكًا للأصول المالية “سندات/ أسهم/ ودائع بنكية” بقيمة (14.6 تريليون دولار) بعد الولايات المتحدة وبما يوازي حجم الأصول المالية لكندا وبريطانيا وألمانيا مجتمعين وثلاثة أضعاف الأصول المالية الصينية!
تمتلك اليابان بمفردها 57 شركة في نادي الـ500 شركة الأغنى والأكبر على سطح الأرض، تنفق على البحث العلمي والتقني ما يزيد عن 150 مليار دولار سنويًا (المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالكامل)، المركز الرابع عالميًا كأفضل بيئة موائمة للابتكار، تمتلك أكثر شبكة قطارات تقدمًا في العالم، وثالث أفضل نظام تعليم أساسي عالميًا بتعداد نقطي بلغ 99.9 نقطة وهي الدولة الأفضل في خدمة العملاء في أي مجال بحسب تقرير التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، وتمتلك العدد الأكبر من المهندسين والتقنيين نسبة إلى عدد السكان بعد الولايات المتحدة وإسرائيل، والثانية بعد الولايات المتحدة في نسبة إنفاق الشركات على البحث العلمي.
إن كنت مازلت تسأل نفسك عن كيفية وصول اليابان لما هي عليه، فإن أنسب شخص لإجابة هذا السؤال هو سويتشيرو هوندا بنفسه، الرجل الذي كان رئيسًا لأكبر شركة عالمية في مجال الدراجات النارية وإحدى عمالقة السيارات العشرة في العالم، هوندا الذي ذهب في مرة لأحد مصانع الشركة وأراد أن يسلم على عامل ياباني هناك، سحب العامل يده مسرعًا لأنها مغطاة بالشحم، لكن هوندا جذب يده وشد عليها مبتسمًا وقائلًا (لماذا تسحبها؟ أنا أحب الشحم).
لذلك أصبحت اليابان على ما هي عليه.
ساسة بوست