خوفي من نفس المصير
هل يتذكر الشعب السوداني دعوة وخطاب النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية “علي عثمان محمد طه” غداة انفصال الجنوب عن الجمهورية الثانية.. وكيف هرطق الكتاب وصحافة السلطان وأبواق الإعلام الرسمي عن تلك الجمهورية التي اختلف الناس حول وجود جمهورية أولى حتى تكون هناك جمهورية ثانية. وهل يتذكر الناس عشية إعلان نتيجة استفتاء الجنوب وتصويت (99%) من الجنوبيين لصالح الاستقلال وردة فعل الحكومة الفطيرة، حينما حشدت ثلة من أصحاب المصالح والمنافع ونافخي كير الانفصال وحشدتهم في بؤس وقلة حيلة وأطلقت على ذلك الحشد المصنوع بتحية العلم.. فأي علم ذلك الذي كان ينتظر تحية هؤلاء النفر مما يفكرون في عائدات إعلان الدعوة لتحية العلم أكثر من (الفكرة) نفسها.. والجمهورية الثانية التي دعا إليها “علي عثمان محمد طه” في ذلك الزمان.. هي جمهورية انتهت بالأمس بإعلان مقررات مؤتمر الحوار الوطني والتوافق على نتائجه وانتظار جنين السلطة الجديد الذي يتخلق الآن في رحم القوى السياسية التي شاركت في الحوار.. الجمهورية الثانية التي عمرها الآن خمس سنوات لم تحقق الأمن ولا الاستقرار في البلاد بل نزفت فيها أطراف البلاد.. ولم تسد قيم.. كالحرية والديمقراطية وعزة الإنسان في وطنه.. بل شهدت الجمهورية الثانية انقسامات حادة في الجبهة الداخلية وصراعات دامية.. وفتحت السجون أبوابها.. لأبناء السودان.. وهاجم المتمردون القرى ونهبوا الثروات.. وجفت في الجمهورية الثانية آبار البترول وتدهورت العملة الوطنية وكثرت المساجد وتعددت طرق الاحتيال، فتدافع الناس للحج والعمرة.. وتضاعف عدد الأطفال مجهولي الأبوين.. زادت نسبة الجرعة الدينية في المناهج التعليمية وانتشر الفساد في البحر والبر.. وتشظى المجتمع إلى طبقات.. وتضاعف عدد المسجونين في الحق الخاص.
انفصل الجنوب واشتعلت دارفور نهباً وقتلاً وسرقات وتشظت الحركات التي تدعي النضال باسمنا.. وأصبح بعضها يقاتل مع “سلفاكير” بثمن والآخر يقاتل مع “خليفة حفتر” في ليبيا بأجر.. في الجمهورية الثانية تعددت إدانات السودان في مجلس حقوق الإنسان وتقهقرت حرية الصحافة للوراء.. وانتهت الجمهورية الثانية بميلاد مرحلة ما بعد الحوار الوطني، حيث ينتظر أن تبدأ الحكومة مراجعات في الدستور والقوانين.. ويفتح المجلس الوطني ذراعيه لاستقبال نحو (90) عضواً جديداً لم ينتخبهم الشعب عبر صناديق الاقتراع، ولم يفوضهم أحد من خلال تمثيل غير مباشر، ولكنهم يستمدون مشروعية تمثيلهم للشعب (باختراق) أنهم أصحاب حق في الحكم بمشروعية الحوار وتلبية نداء الرئيس.. ننتظر في الأيام القادمة ميلاد حكومة ذات قاعدة عريضة جداً تضم الإسلاميين في الحزبين الوطني والشعبي، وحزب الأمة والاتحادي والمنشقين عن العدل والمساواة، والمباغضين لحركة التحرير.
وتمضي سفينة الحكم القادم تملأ أشرعتها رياح الحوار الذي أسس لعهد جديد، ولكن الخوف كل الخوف أن (ينسى) الجميع شعارات التغيير.. وتصبح القوى التي ولجت ساحة الحكم مشجعة للمؤتمر الوطني وليس ناصحة له.. تصبح مثل الاتحادي جناح “الدقير” وحزب الأمة بقيادة “مسار” والإخوان المسلمين وأنصار السنة والحركات الشعبية التي لا تحصى ولا تعد.. بل الخوف أن يكون مصير الجمهورية الثانية التي أطلق اسمها “علي عثمان محمد طه” وغادر هو نفسه الملعب التنفيذي ولم يختلف اللعب وسط الميدان بغيابه.. ومقررات مؤتمر الحوار الوطني إذا لم تجد حراسة مشددة من القوى التي (صنعت) من دم وماء توصيات اللجان الست.. سيصبح مصيرها ليس أفضل حالاً من الجمهورية الثانية التي لا يتذكرها الآن حتى الذين (هللوا) لها.. وحملوا مباخرها في رابعة النهار وآناء الليل.
المجهر