الإنترنت يقتل أدمغتنا ببطء
على مر التاريخ، كان الناس، ولا يزالون، قلقين جدًا فيما يتعلق بالتكنولوجيا الجديدة. وظهر الخوف من أن الدماغ البشري لا يمكنه التعامل مع هجمة المعلومات اللامحدودة، والتي أصبحت ممكنة بفضل التطورات الأخيرة، للمرة الأولى، كرد فعل من بعض الناس على تطور تكنولوجيا الطباعة وظهور الصحافة المطبوعة في القرن 16.
وإذا ما قمنا بمبادلة الصحافة المطبوعة بالإنترنت، فإن لدينا في زمننا الحالي نفس الاهتمامات والمخاوف التي كانت موجودة وقت ظهور الصحافة المطبوعة بالضبط، هذه المخاوف التي تظهر بشكل منتظم في وسائل الإعلام، وتركز عادة على الأطفال.
هنا تتساءل صحيفة الجارديان البريطانية «لكن هل هناك أية شرعية لهذه المطالبات؟ أم أنها مجرد ذعر غير ذي أهمية؟» من الضروري معرفة أن هناك العديد من الأشياء التي من المهم أخذها في الاعتبار عند النظر في الكيفية التي تتعامل بها أدمغتنا مع شبكة الإنترنت.
غموض الإنترنت
أولًا، لا ننسى أن «الإنترنت» هو مصطلح غامض جدًا؛ نظرًا لأنه يحتوي على أشياء كثيرة في العديد من الأشكال. فعلى سبيل المثال، يمكن لنا أن نطور إدمان ألعاب القمار لتنتقل من الكازينوهات الحقيقية إلى تلك الكازينوهات الافتراضية على الإنترنت أو مواقع «البوكر» المتخصصة؛ ليمكنك بالتالي أن تلعب القمار في كل وقت، وأي مكان.
هذا مثال واضح على أن دماغ شخص ما يمكن أن يتأثر سلبًا عبر الإنترنت، ولكن سيكون من الصعب القول إن الإنترنت هو السبب الرئيس، وإلا فيجب علينا أن نلقي اللوم على «المباني»؛ كونها السبب الرئيس وراء انتشار إدمان القمار من الأساس؛ كون الكازينوهات الحقيقية موجودة على صورة مبان، مبدأ التعميم هنا لا يصح بأية حال من الأحوال. وبالتالي فإن أساس المشكلة يتمثل في السياق الذي حدثت به المشكلة.
لكن ومع ذلك، فلا ينبغي أن ننسى أن الإنترنت هو الذي قدم لنا وسيلة للوصول تتميز بأنها أكثر مباشرة ، وثابتة، وواسعة النطاق إلى المعلومات، أكثر من أي اختراع شهده العالم من قبل، وبطريقة أكبر من أي وقت مضى في التاريخ البشري. فكيف يمكن بالتالي ألا يؤثر الإنترنت علينا وعلى أدمغتنا؟
أصبح الدماغ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنترنت
معلومات وتكيف
من المهم لنا أن نتذكر أن الدماغ البشري دائم التعامل مع تدفق مستمر من المعلومات الغنية، فهذا هو ما عليه العالم الحقيقي. معلومات وراء معلومات، وذلك من خلال حواسنا؛ وبالتالي طالما كانت حواسنا مرتبطة بشيء ما، فهذا يعني أن دماغنا يعالج في هذا الوقت تدفقًا مستمرًا من المعلومات. فسواء كنت تحدق في مشهد مصور ما على شاشة صغيرة أو مشاهدة الأطفال يلعبون في الحديقة، فإن كلًا من دماغنا والنظام البصري لدينا يحتاجان إلى القيام بنفس كمية العمل على حد سواء، إذ إن كلاهما يوفر معلومات حسية مفصلة.
ومهما كان الأمر الذي تقوم به أدمغتنا باستخدام حواسنا المختلفة، فإن حواسنا توفر معلومات مفصلة جدًا بشكل زائد عن الحد. فالدماغ – في الواقع – لا يمكنه معالجة كل شيء تحضره لنا حواسنا؛ فعلى الرغم من كل قوته والتعقيد الذي يحمله، إلا إنه لا يملك السعة الكافية لاستيعاب كل تفصيلة تحضرها الحواس الخاصة بالإنسان إليه.
يُصفي دماغنا الأمور، ويستنبط ما هو مهم استنادًا إلى الخبرات والحسابات ونوع معين من أنظمة «أفضل تخمين ممكن». معنى هذا أن الدماغ يتكيف بشكل جيد لمنع حدوث أي أضرار تتعلق بالحمل الزائد للمعلومات، لذلك فمن غير المرجح أن الإنترنت سوف يكون قادرًا على التسبب بضرر معين لأدمغتنا.
وطبقًا لما نشره موقع سوت (sott.net)، فإن دماغنا لا يقوم بالتقاط جميع ما تراه أعيننا. فلو نظرت من نافذة منزلك لبضع ثوان، ثم أغلقت عينيك، فما الذي ستتذكره؟ ربما تلاحظ أنها كانت تمطر، وأن هناك رجلًا وابنه الصغير كانا يحملان شمسية واحدة، لكن هل تتذكر لون الشمسية؟ وماذا عن تلك السيارة التي كانت واقفة بجوار منزلك، هل تتذكرها؟ هل كان بها شخص ما؟
يقول بعض علماء الأعصاب: إنه حتى ولو كنت قد أدركت عددًا قليلًا جدًا من التفاصيل من مشهد النافذة هذا، إلا أن عينيك قامتا بالفعل بالتقاط كل تفصيلة كانت ظاهرة أمامك، ولكن هناك عيوب لهذا المنطق، فيقول الباحثون بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بحث نشر في مجلة «اتجاهات في العلوم المعرفية»: إن رؤيتنا قد لا تعبر عن جوهر ما نراه.
طريقة عمل الدماغ معقدة جدًا وهو ما يجعل بعض التفسيرات غير مؤكدة
هل يساعدنا جوجل على النسيان؟
في مقالة سابقة نُشرت في «مجلة الذاكرة – Memory Journal» في أغسطس (آب) 2016، وجد باحثون في جامعة كاليفورنيا وجامعة إلينوي، أن «التفريغ المعرفي»، أو الميل إلى الاعتماد على أشياء مثل الإنترنت، باعتبارها مذكرًا لنا، يزداد تدريجيًا بعد كل استعمال. ربما كنا نظن أن الذاكرة هي شيء ما يحدث في الرأس، ولكن، وعلى نحو متزايد، أصبحت شيئًا يحدث بمساعدة من وكلاء، خارج نطاق أدمغتنا وعقولنا.
وأجرى الباحثون تجارب لتحديد الاحتمالات التي ستجعلنا نحاول الوصول إلى جهاز الكمبيوتر، أو الهاتف الذكي؛ للإجابة على أسئلة معينة تظهر لنا. وتم تقسيم المشاركين في هذه التجارب إلى مجموعتين، للرد على بعض الأسئلة شديدة السهولة، لكنها تحتوي على تحدٍّ ما. واستخدم أفراد إحدى المجموعتين ذاكرتهم فقط للإجابة عن هذه الأسئلة، بينما استخدم أفراد المجموعة الثانية محرك بحث جوجل.
بعد ذلك، أتيح للمشاركين خيار الإجابة عن أسئلة تالية أكثر سهولة، ليجيبوا عنها بالطريقة التي يرغبون بها، إما بذاكرتهم أو باستخدام جوجل.
وكشفت النتائج أن المشاركين الذين استخدموا الإنترنت أو جوجل للإجابة والحصول على المعلومات الخاصة بالأسئلة الأولى، مالوا بشكل أكبر للعودة إلى استخدام جوجل للإجابة عن الأسئلة التالية، بالرغم من أنها بالغة السهولة. هؤلاء كانت نسبة استخدامهم لجوجل أكبر بكثير من المجموعة الثانية، المعتمدة على ذاكرتها منذ البداية.
وأمضى المشاركون وقتًا أقل في التشاور مع ذاكرتهم الخاصة بهم قبل اللجوء إلى شبكة الإنترنت، الأهم أن احتمالات استخدام المشاركين لذاكرتهم لم تكن قليلة فقط، بل إن حتى الفترة الزمنية المستغرقة من أجل مشاورة ذاكرتهم، بشكل طبيعي، أصبحت أقل بشكل واضح مع كل مرة. وأظهرت هذه التجارب أن 30% من المشاركين، الذين استشاروا محركات البحث منذ البداية للإجابة عن الأسئلة، لم يتمكنوا حتى من محاولة الإجابة عن أي سؤال بسيط عبر ذاكرتهم فقط.
اقرأ: كيف يسيطر الإنترنت على ذاكرتنا البشرية تدريجيًا.
لكن هناك بعض الاعتراضات القوية على هذه النتيجة؛ فالذاكرة لا تعمل تمامًا بهذه الطريقة. والأشياء التي نواجهها ونخوضها ينتهي بها الأمر للتحول إلى ذكريات من خلال عمليات اللاوعي. فالأشياء التي لها صدى عاطفي أو أهمية معينة لدينا، تميل إلى أن نتذكرها بسهولة أكبر من المعلومات المجردة أو الوقائع غير الملموسة.
هذه الأمور الأخيرة تتطلب دائمًا المزيد من الجهد لنتذكرها على المدى الطويل، وتحتاج إلى أن نتدرب عليها مرارًا وتكرارًا من أجل أن يتم تشفيرها كذكريات في أدمغتنا. وبالطبع لا يمكن إنكار أن شبكة الإنترنت غالبًا ما تجعل هذه العملية غير ضرورية، ولكن فكرة أن هذا الأمر يسبب ضررًا لأدمغتنا هو سؤال آخر تمامًا.
عندما تفعل شيئًا ما في كثير من الأحيان أو تفعل الأشياء الجيدة لك، فإن ذلك ينعكس في بنية الدماغ. على سبيل المثال، فإن منطقة القشرة الحركية في الدماغ الخاصة بموسيقي ما يتقن حركات اليد الدقيقة، يختلف عن الأشخاص غير الموسيقيين. هنا يتجادل العلماء في تفسير الأمر بين طريقين رئيستين، فهناك أدلة علمية توضح أن تكرار فعل ما لفترة طويلة تجعله يتحول إلى الذاكرة بشكل واضح ويمكن استعادتها بسهولة؛ وهو ما يعزز نظام عمل الذاكرة في الإنسان. من ناحية أخرى، تشير بعض الأدلة إلى أن البيئة الأكثر تحفيزًا والأكثر تنوعًا تساعد على تطور الدماغ؛ وبالتالي فإنه من الممكن أن المعلومات المثيرة للاهتمام الموجودة على شبكة الإنترنت بشكل ثابت، هي بمثابة أفضل تمرين لك، بدلًا من الحقائق والأرقام الجافة.
ولكن، على عكس ذلك، تشير الأدلة الأخرى أن العرض المفصل حتى لصفحات الإنترنت البسيطة، توفر الكثير من الخصائص والمعلومات الزائدة عن الحد، التي لا يمكن للذاكرة البشرية قصيرة المدى ذات السعة المحدودة استيعابها والتعامل معها، والتي يمكن أن يكون لها تداعيات غير مرغوب بها لنظام الذاكرة. هي صورة مختلطة بشكل عام، دون يقين محدد.
هل يسبب الإنترنت توقف نشاط الدماغ؟
القدرة على التركيز
هل يؤثر الإنترنت على قدرتنا على التركيز على شيء ما، أو هل قدرتنا على الوصول إلى هذه الأشياء الكثيرة على شبكة الإنترنت طوال اليوم يمكن أن يسبب لنا كمَا كبيرًا من الإلهاء؟
يتميز نظام الانتباه عند الإنسان بأنه نظام معقد؛ وبالتالي فنحن لا نملك الصورة الكاملة عن هذا الأمر. نظام الانتباه لدينا مكون من طبقتين، نظام من أسفل إلى أعلى، ونظام اهتمام من أعلى إلى أسفل (بمعنى أنه هناك الجانب الواعي الذي يتيح لنا أن نوجه اهتمامنا بأنفسنا، والجانب اللاواعي الذي يحول الاهتمام نحو أي شيء تلتقطه حواسنا والذي يكون أمر كبير ومميز)، هذان النظامان أو الطبقتان يمكن أن تجعلا فكرة الوصول إلى تركيز بنسبة 100% على شيء ما بمثابة تحد كبير.
لهذا السبب فإن الكثير من الناس يفضلون سماع الموسيقى في حين أنهم يعملون، فهي تحتل جزءًا من نظام الاهتمام لدى الإنسان الذي من شأنه – إن لم يكن مشغولًا – البحث عن أمور أخرى فرعية تشتت انتباهه الرئيس، في الوقت الذي يحاول القيام بشيء هام جدًا.
الإنترنت يوفر مصدر إلهاء سريع جدًا وفعال. فحن يمكننا أن ننظر إلى شيء ممتع في غضون ثوان، وهي بالطبع مشكلة، خصوصًا بالنظر إلى أن الكثير من العمل في عالمنا المعاصر يجري على نفس الجهاز الذي نستخدمه للوصول إلى الإنترنت. من هنا، فإن التطبيقات والشركات تحاول جاهدة معالجة هذا الأمر، فظهرت على سبيل المثال العديد من التطبيقات التي مهمتها الرئيسة إبعاد الملهيات المختلفة التي تصرف انتباهك.
ولكن سيكون من الظلم أن نقول إن الإنترنت هو المسؤول الرئيس عن صرف انتباهنا عن العمل؛ فنظام انتباه المخ وتفضيل تجارب جديدة كان موجودًا قبل ظهور الإنترنت بزمن طويل، وشبكة الإنترنت هي مجرد شيء يجعل هذه التجارب سهلة الوصول إليها.
ساسة بوست