كوبيه.. المدينة الضائعة في ردهات التاريخ ..!!
من الصعب أن تكتب عن تاريخ مدينة اختفت قبل قرنين تقريباً..وضاعت في غياهب الزمن، وتلاشت كما خيوط من دخانٍ صعدنّ ثم لفتنّ من صادفنّ ، ثم طواها الخفوت الأبدي العتيد، فمدينة (كوبيه) بشمال دارفور في قرون مضت، لم يبقَ منها إلا رسم باهت، وأجداث قديمة، وطلول لا تنبئ عن عظمتها السابقة إلا القليل، ولو قيست قياسا ً لقال لك من يعرف التاريخ القديم إنها مثل إرم ذات العماد او اطلانتس في البحر المتوسط وممفيس الفرعونية وماتشو بيتشو في حضارات الإنكا في أمريكا الجنوبية او أسبرطة اليونانية طروادة، فقد أخذها الجبار أخذ عزيز مقتدر .. هي قصص غريبة وصورة من صور بطر العيش ونزق المترفين الذين فسقوا فحق على هذه المدن القول فدمرت تدميراً .. نشأت مدينة (كوبيه) وموقعها شمال غرب مدينة الفاشر بين منطقة (كورما) و(وادي كفوت) ، في القرن الخامس عشر الميلادي مع نهاية سلطنة التنجر وبداية سلطنة الفور، وتقع عند سفوح رملية تتخللها وديان وخيران صغيرة في أرض منبسطة ومع مفترق طرق تروح وتغدو في الاتجاهات الأربعة، ولم تكن لتكون مدينة ذائعة الصيت في تلك الفترة لولا ارتباطها بالثراء الفاحش والتجار القادمين من كل مكان من داخل السودان ومن مصر والمغرب العربي وشمال إفريقيا وبلاد سلطنة وداي والباقرمي والممالك المنسية في مجاهل غرب إفريقيا ومناطق جنوب الصحراء الكبرى . يبدأ منها طريق الأربعين وهو أكبر طريق تجاري عرفه السودان القديم، وتنطلق منها قوافل التجارة إلى مصر وشمال إفريقيا ومناطق الشام والحرمين، ومنها تتفرق القوافل وينتشر التجار، في كل غرب السودان وتشاد الحالية وغرب إفريقيا، وبها أكبر أسواق دارفور لأكثر من أربعة قرون تقريباً، وقد اختارها سلاطين الفور لتكون هي العاصمة التجارية وعلى مبعدة من الفاشر العاصمة السياسية للسلطنة، وكان الغرض أن تبتعد التجارة ونفوذها ودنيا المال والأعمال بعيدا ًعن مقر القرار السياسي حتى يتم الحفاظ على العاصمة نقية وصافية من ملوثات التحالفات غير المقدسة بين السياسة والمال والتجار ورجال الأعمال، ففي الوقت الذي ظلت فيه الفاشر مدينة للقرار والحكم والعلم والفقه، كانت (كوبيه) بلا منازع هي العاصمة التجارية والقلب الاقتصادي لكل دارفور وعموم غرب السودان . (ب) وفد إلى (كوبيه) عندما نشأت صغيرة تائهة وسط القيزان والرمال، التجار من أوساط السودان تقريباً من مجموعات (الحضر) أو(الحضور)، وولدت كلمة (الجلاب) هناك وصفاً مخلداً للتجار القادمين من أوساط وشمال السودان، واستوطنوا المدينة وكانت سوقاً في زرائب وصفها الرحالة الألماني في القرن التاسع عشر (جوستاف نيختغال) وصفاً مذهلاً وتطورت بعدها الزرائب وأماكن الإقامة إلى بيوت من الطين والآجِر والطوب الأحمر والأخضر، ثم وفد إليها المصريين والمغاربة وجاء الناس من مختلف القبائل في مناطق دارفور وسلطنة وداي وغرب إفريقيا، وتوسعت أحياء المدينة وترامت أطرافها وتنوعت أسواقها بأقسامها المختلفة على مدى القرون التي عاشتها، وسرعان ما تحولت إلى أسواق حديثة وفق معايير تلك الأزمنة الغابرة، فصار هناك سوقاً للقماش الأوروبي المصنوع من القطن، وأسواقاً للقماش بأنواعه والحرير والكتان المجلوبة من مصر وبلاد الشام والهند والصين وتركيا، ثم أسواق الخرز والأصداف والذهب والمجوهرات من كهرمان و لؤلؤ وعقيق وأحجار كريمة وكذلك العطور المستجلبة من أوروبا وبلاد آسيا البعيدة ومن مصر، ومتاجر للسكر والدقيق والمواد الغذائية والتمر والقمح والبقوليات والخضروات والوقود والحطب والفحم والبصل وبقية الاحتياجات اليومية مثل الزيت ومواد التنظيف كالصابون وغيره ، وسوق ضخم لريش النعام وسن الفيل وجلود النمور والفهود والأسود والحيات والأفاعي الضخمة والتماسيح، بالإضافة إلى أسواق الإبل والماشية التي كانت تصدر إلى مصر وليبيا الحالية وتونس الخضراء . وكانت العملات للتبادلات التجارية ويا للغرابة بينها الدولار ( دولار ماريا تريزا) والعملات المحلية للمقايضة (الخردة) والمقطع(ترومبا) و(الطرقة) و(التكية) كما ذكر الرحالة ناختيغال، وهذه قبل أن تظهر العملة (رضينا) التي تم سكها في عهد السلطان علي دينار آخر سلاطين سلطنة الفور .. (ت) كانت الحياة في(كوبيه) كما يقول المؤرخون والرحالة وما تناقلته الأجيال جيلا ًبعد جيل، وما روته الذاكرة الشعبية لأهل دارفور، تضاهي الحياة في كثير من المدن المتقدمة في ذلك الزمان، ظهرت في (كوبيه) الطنافس والأبسطة الراقية والسجاد الفارسي وأنواع فاخرة من الملبوسات الرفيعة لعلية القوم التي ما كانت لتتأتي حتي للأسرة الحاكمة او السلطان نفسه في الفاشر، وتمتع أهل كوبيه بمباهج الحياة في المأكل والملبس والمرقد والمشرب والمسكن، وظهرت في القرن الثامن عشر أنواعاً من التبغ والبارود والسلاح الناري وأدوات الصيد والساعات اليدوية والرملية، ودخلت مخلفات او قل مقتنيات من الحضارة الأوروبية وموضاتها، وعرفت منطقة كوبيه وما جاورها زراعة التبغ والتمباك فعندما لحق بمحمد بن عمر التونسي المؤرخ والرحالة المشهور صاحب كتاب تشحيذ الأذهان بسير أهل السودان، ابن عم له يدعى ود عماري هو الذي أدخل نبتة التمباك ولذا حتى يومنا هذا يسمى التمباك ومحلات بيعه بو عماري ..!! وبلغت المدينة شأواً لا ضريب له أو مثيل في الترف وبطر الحياة ، وجنى أهلها خاصة التجار (الجلابة) ثروات ضخمة وامتلك الكثير منهم بيوتاً ومنازل وقصوراً في مصر بمدينتي القاهرة وأسيوط وكانت الخيول المطمهمة والعربات التي تجرها الخيول والثياب المحلاة بالذهب والمزركشة بالخيوط الملونة تنتشر في المدينة وظهرت أنواعاً من الأثاث الفاخر وعرف الناس تجارة الورق وأقلام الكتابة والزجاج وأنواع مختلفة من المرايا والمصنوعات الجلدية والعلب الخشبية والخزن والأدوية والمعدات الطبية التي تشبه ذاك الزمان، ولو قيست الملبوسات وأزياء الرجال والنساء والعطور في عهد كوبيه وما نراه في عهدنا الراهن اليوم لوجدنا أن زي الرجل في مدينة كوبيه قبل قرنين او ثلاثة يتكون من عدة قطع مختلفة ومحلي بخيوط الذهب والفضة ولهو أغلى بكثير وأفخم من ما نراه اليوم. وكان طلبة العلم في الأزهر الشريف وتركيا والمسجد الأموي في دمشق عندما يعودون سواء أكانوا من دارفور أو من أبناء غرب إفريقيا يمرون بكوبيه ببضع البضائع وهم من أدخل بعض العادات الجديدة وموضات اللبس وكذلك فعل التجار الذين يذهبون إلى مصر . (ث) بعد أن بلغت كوبيه هذا الترقي المدني والتحضر العمراني والتجانس السكاني ، كانت بها حياة أشبه بما ورد في الأساطير وقصص ألف ليلة وليلة، خاصة في التنافس بين تجارها والعائلات التي كانت تتحكم في حركة البيع والشراء واستجلاب السلع، فقد كانت الحياة الرغدة جالبة لكل ما هو مسيء ومدمر للإنسان ، ويقال إن السبب الرئيس في خراب (كوبيه) حتى صارت أثرا ًبعد عين، وتبخرت في الهواء وحل بها ما حل بسابقاتها من المدن المترفة عبر التاريخ الإنساني الطويل ، القصة في خراب كوبيه تقول: إن فتاة باهرة الجمال كانت تعيش فيها، أسكر جمالها كل شاب وفتى في المدينة وتسابق الجميع وتباروا في خطب ودها والتقدم لأهلها لخطبتها والزواج منها، وكانت عنهم لاهية لا ترد على طلابها وخطابها، واحتدمت المنافسة حولها وانحصرت بين شابين من كبار التجار، فاشترطت والدة الفتاة على الشابين أن يملأ كل واحد منهما بئراً من آبار الماء في كوبي بإبر الخياطة التي كانت تستجلب من مصر، والآبار في كوبيه عميقة تغور غوراً، فتبارى الشابان التاجران وكانت قوافلهما تذهب إلى مصر في شهور وتعود محملة بالإبر لردم البئرين، وعندما أكمل أحدهما ملء البئر قبل الآخر، دبت في كوبيه الخلافات والأمراض وتحول جو المدينة من عيش رغيد الى جو مكفهر متقلب وكثرت الفتن والمشاكل والأوبئة، فبدأ الناس في الفرار والرحيل بعيداً من المدينة التي عاشت أياماً كأيام المدن الآفلة التي حلت عليها اللعنات، فلم تلبث إلا شهور قليلة حتى باتت خاوية على عروشها هجرها أهلها وتفرقوا أيادي سبأ وابتعدت عنها قوافل التجارة و رحل عدد كبير من الناس إلى داخل الفاشر وتفرق البقية في مدن دارفور الأخرى وهاجر من جاء من غرب إفريقيا ومن مصر وبلاد شمال إفريقية من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب بلاد فاس وموريتانيا بلد الشناقيط ، وصمتت المآذن عن نداء الصلاة وحلت بكوبيه اللعنة الأبدية وجاءت عاصفة هوجاء ذات يوم فاحترقت كوبية من أولها إلى آخرها وتدمرت الأسواق وتحولت الى رماد .. ومن غريب ما يروي وما يعاش حتى اليوم إن مكان كوبية لم تبقَ منه إلا بعض شواهد من القبور القديمة، مصنوعة من الرخام الفاخر في أطلال المدينة المختفية تعبر عن فاخر عيشها وترف أهلها .. ويحق القول إنها ذهبت إلى أدراج الرياح وضاعت في ردهات التاريخ .. وعفا عنها الزمن ..!
المزيد من المقالات…
الانتباهة