حرب كشمير.. هل هي قنبلة نووية موقوتة تتأرجح بين نيودلهي وإسلام أباد؟
هناك دول قليلة في العالم ذات علاقات ثنائية يمكن الإشارة إليها كحالة واضحة تمثل كراهية مطلقة، أو بالأحرى تنظر كل منهما للأخرى على أنها تهديد وجودي لها ينبغي إزالته، لا وجود للحلول الوسطى هنا، إما الخضوع التام، وإما لا، الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، السعودية وإيران، أثيوبيا وإريتريا، وبالطبع الهند وباكستان.
لدينا «سوشما سواراج»، وزيرة العلاقات الخارجية الهندية، تقف بالأمس، الاثنين 26 سبتمبر (أيلول)، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مطالبة الدول الأعضاء بفرض عزلة دولية على باكستان؛ إن لم تتخل عن استخدامها للإرهاب، ومخاطبة الحاضرين بقولها «بيننا دول تزرع الإرهاب، وتغذيه وتُصدره، بينما أصبح إيواء الإرهابيين بطاقة التعريف الخاصة بهم، ينبغي أن نحدد هذه الدول ونحاسبها»، وبالطبع يعرف أي دبلوماسي مبتدئ مقصد «سوشما»، كان ينقصها أن تسمي باكستان صراحة، في محفل سنوي يُعرف ببروتوكولاته الدبلوماسية الهادئة، ومجاملاته التي لا حصر لها.
بجانب سوشما، لدينا أيضًا «راجناث سينغ»، وزير الداخلية الهندي، وتغريدة رسمية على موقع التواصل الاجتماعي«تويتر»، وصف فيها صراحة باكستان بـ «دولة إرهابية، ينبغي تعريفها وعزلها على هذا الأساس»، ورئيس الوزراء الهندي نفسه، «ناريندرا مودي»، رأس الدولة الهندية، مشتركًا في الحفل، وواصفًا باكستان بأنها «دولة إرهابية»، فيما بدا وكأنه علامة مسجلة لدى الهنود، في كافة تصريحاتهم الرسمية.
بالطبع لا يمكننا توقع صمت باكستاني، وجاءت التصريحات في مستوى مقارب أيضًا، وإن كانت تصريحات دفاعية في الأيام الأخيرة، فنفى «نواز شريف»، رئيس الوزراء الباكستاني، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس الماضي، كافة الاتهامات الهندية، وقائلًا إن إسلام أباد ستتخذ «كافة التدابير اللازمة للحفاظ على توازن الردع»، ولا يبدو حال الترتيب الحكومي، أسفل رئيس الوزراء الباكستاني، أكثر هدوءً؛ إذ اتهم عدد من مسؤولي الخارجية الباكستانية الهند، على مدار الأسابيع الماضية، برعاية الإرهاب، وانتهاكات عنيفة لحقوق الإنسان في جزء «كشمير» الهندي، وبدا وكأن البلدين يتراشقان نفس الاتهامات تمامًا، بلا تغيير.
الدماء الكشميرية
يمكن تجسيد المشهد الدموي بحادثة فبراير (شباط) من عامنا الحالي في كشمير، الإقليم الحدودي ذي الأغلبية المسلمة، والمتنازع عليه من قبل الجارتين، الهند وباكستان، منذ منتصف القرن الماضي، والواقع تحت سيطرة الهند، بعد انتهاء حرب الألفية بانتصار نيودلهي على إسلام أباد، عندما قام بضعة مسلحون، في السبت 20 فبراير (شباط) الماضي، بنصب كمين لقافلة عسكرية هندية، في مدينة سريناغار، إحدى مدن القسم الإداري الهندي من كشمير، والعاصمة المفترضة للإقليم، لتقتل جنديين من القوات الخاصة الهندية، وتصيب 13 آخرين، ثم لجأوا إلى معهد دراسي حكومي، ليدخلوا في حرب عصابات مع القوات الهندية، لـ 48 ساعة كاملة، يومين قامت فيهما القوات الهندية بقصف المبنى بقذائف الهاون، والقيام بأكثر من محاولة اقتحام، وخسارة خمسة آخرين، ومدني، قبل أن يسيطروا على المبنى ويقتلوا جميع المسلحين فيه.
جانب من مظاهرات كشمير في الآونة الأخيرة، والمصادمات بين القوات الهندية الحكومية والمتظاهرين
تعتبر هذه الحادثة حادثة عادية، وروتين حياتي بالإقليم، روتينٌ غالبًا ما يتبناه الانفصاليون، أو المجموعة التي ترفض السيطرة الهندية والباكستانية على الإقليم، وتطالب بإقليم مستقل، ودولة منفصلة، وبينما تنفي باكستان دائمًا صلتها بهم، فإن الهند تكيل الاتهامات، مرارًا وتكرارًا، لإسلام أباد بتدريب هؤلاء الانفصاليين، وتسليحهم وتمويلهم، ثم ارسالهم للجانب الهندي ليقوموا بـ «نشر الإرهاب»، على حد تعبيرات المسؤولين الهنود.
يحيا الإقليم في صراع منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بين ثلاثة أطراف، كل منهم يدعي وصلًا بكشمير، الهند التي تطالب بسيادة كاملة، وباكستان المطالبة بنفس السيادة، والانفصاليون الكشميريون المطالبون بانفصال واستقلال عن البلدين.
اغتيال «برهان»
لا يختلف حال الإقليم كثيرًا عما كان عليه، الإقليم المدجج بحوالي نصف مليون جندي هندي، يمنعون الاضطرابات ويقمعون الانتفاضات، كما فعلوا في انتفاضتي عامي 2008 و2010، والتي أوقعت فيهما أسلحة الهند مئات القتلى من الكشميريين، قمع تسبب في انخفاض وتيرة الصراع المسلح الداخلي، ووتيرة الراغبين في تلقي التدريب الباكستاني، فيما خلف الحدود، ثم العودة لمقاتلة جيش هندي، في صراع غير متكافئ بأي شكل.
تبرز في الإقليم الوجوه التقليدية القائدة، كـ «شكيل باكشي»، قائد رابطة الطلاب المسلمين، قيادي كشميري ديني لم يتغير بأي شكل، سواء في دعمه الكامل لانتفاضة 2010 تحديدًا، وتشبيهه للانتفاضة بأنها «الصيغة الكشميرية للانتفاضة الفلسطينية»، أو في عامنا الحالي برؤيته لما سماه بـ «خطة دلهي للسيطرة الدينية على كشمير»، جراء تزايد الإقليم على أئمة ودعاة دينيين تلقوا تعليمهم في الهند. والمقصد أن مستوى المعارضة الكشميري شهد انخفاضًا ملحوظًا، في مستوى «العنف النشط» إن جاز القول، وكذا مستوى المعارضة الإعلامية والشعبية النشطة، حتى ظهور برهان.
آلاف الكشميريين في تشييع جثمان برهان مظفر واني
من المثير للاهتمام معرفة أن «برهان مظفر واني»، القائد الكشميري اللامع، وزعيم «حزب المجاهدين»، أكبر التنظيمات الانفصالية في إقليم كشمير، هو شاب يبلغ من العمر 22 عامًا فقط، وبدا وكأن سنه صَعب من مهمة استيعاب نيودلهي لتأثيره في الإقليم، إلا أن صعوده السريع، وجرأته في الظهور بوجهه، خلافًا لقيادي الحركة، والحركات الانفصالية الكشميرية عمومًا، وتسجيلاته التي راقت رواجًا ضخمًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام، والمصوبة دائمًا في اتجاه تعزيز كراهية الحكم الهندي، كل ذلك جعل تقليل نيودلهي منه ذا ثمن كبير، تدفعه الهند الآن فيما بعد قتله.
منذ بضعة أشهر، قامت الهند بعرض مكافآت مالية مغرية، لمن يقدم معلومات تفضي إلى اعتقال برهان، وبينما استمر برهان في نشاطه المؤجج لرفض الحكم الهندي وكراهيته، كانت نيودلهي تسعى خلفه بكل قوتها، ما أسفر بالفعل عن مقتله جراء هجوم هندي عليه، في الثامن من يوليو (تموز) الماضي، لتبدأ بعدها أنهار الدماء.
كان المشهد الأول، المفاجئ للهند، هو جنازة «برهان»، والتي حضرها ما تم تقديره بـ 200 ألف كشميري، فيما بدا وكأن كشمير كلها تمشي في جنازته، وتم لف جثمانه بالعلم الباكستاني، نكاية في الحكومة الهندية، مع الكثير من الغضب المشتعل، والرغبة في الثأر للشاب حديث السن بالغ التأثير.
مر منذ مقتله وحتى الآن على الإقليم أقل من ثلاثة أشهر، قُتل فيها حوالي 70 كشميريًا، على أيدي القوات الهندية، وأصيب أكثر من 11 ألفًا آخرين، منهم أكثر من سبعة آلاف كشميري، وأكثر من أربعة آلاف من القوات الهندية الحكومية، في أجواء وصفت بأنها الأكثر عنفًا منذ انتفاضة عام 2010.
مع تزايد العنف وضعت السلطات الهندية الإقليم تحت الحكم العرفي، وأعلنت حظر التجول لحوالي 53 يومًا متتاليين، قبل أن ترفعه في 31 أغسطس (آب) الماضي، إلا أن أعمال العنف لم تنته عند هذا الحد، وبدا وكأن كشمير تخرج تراكمات «القمع الهندي»، وتسترجع ذكرى اعدام «أفضل غورو» في 2013، ولكن بشكل أكثر عنفًا بكثير، وعلى خلفية مقتل شخص أكثر شعبية بما لا يقاس.
العودة الباكستانية
صباح يوم الأحد، 18 من سبتمبر (أيلول) الحالي، استيقظ رئيس الوزراء الهندي على تقرير أمني عاجل، لم يرغب في رؤيته بالتأكيد، نقل له مقتل وإصابة العشرات من الجنود، في معسكر للجيش الهندي قرب بلدة أوري الحدودية، الواقعة قرب خط الهدنة الهندي الباكستاني في كشمير.
هزت العملية أركان الحكومة الهندية، كونها الأعنف منذ عقدين على الأقل، وبينما يصرح مسؤول الجيش الهندي بمقتل منفذو العملية الأربعة، كان الهنود يعدون قتلاهم البالغين 18 جنديًا على الأقل، ومصابيهم الذي بلغوا أكثر من 35 آخرين، وبينما عملت المروحيات العسكرية الهندية على نقلهم للمستشفيات، كان أعضاء الحكومة الهندية، بدءً من رئيس الوزراء ناريندرا مودي، ووصولًا إلى وزير الداخلية «راجناث سينغ»، يصبون جام غضبهم واتهاماتهم على الجارة باكستان، في الساعات الأولى للعملية، وبلا انتظار لأي تحقيق.
بالطبع سلكت السلطات الهندية نهج «أطلق النيران ثم اسألهم فيما بعد»، نهجٌ أدى إلى مقتل ثمانية أشخاص، بعد الهجوم العسكري بيومين، في الـ 20 من الشهر الحالي، بنيران الجيش الهندي، وقالت عنهم نيودلهي أنهم كان يتسللون لعبور الحدود، لترتفع حصيلة قتلى الحدود، بين الجانبين، في عامنا الحالي فقط، إلى 31 شخصًا حتى الآن.
إذن تتهم الهند، وتنفي باكستان، وتثور كشمير، وتتعرض القواعد العسكرية للهجوم، وتنتهج نيودلهي العنف مع الجميع، بينما يبدو الصمت الدولي مثيرًا لتساؤلات كثيرة، خاصة أن المنطقة تتمتع بأهمية جيو-استراتيجية، وليسا مجرد دولتين من الممكن تركهما لينهكا بعضهما البعض بلا تدخل أو تأثير.
أين الجميع؟
تقع الولايات المتحدة بين حجري رحا، فمن ناحية تمثل الهند بالنسبة لواشنطن شريكًا استراتيجيًا اقتصاديًا لا غنى عنه، وسوقًا بالغ الضخامة للولايات المتحدة، خاصة في قطاعي الطاقة والتكنولوجيا، الأمر الذي يؤكده الجانبان في كل مؤتمر سنوي بينهما، الذي يطلق عليه «الحوار الاستراتيجي السنوي»، وتؤكده تصريحات كيري في مؤتمر هذا العام، نهاية أغسطس (آب) الماضي، بأن الولايات المتحدة «تشجع الحوار بين الجانبين والعمل على حل المشكلات»، تصريحات شديدة الروتينية والتقليدية، وبلا أثر حقيقي، وبلا مخاطرة بإغضاب الهند، وفي نفس الوقت بلا تحيز لها، مراعاة لكون باكستان بوابة واشنطن الأمنية، بالغة الأهمية، لبسط سيطرتها على أفغانستان.
وربما تبدو كشمير الآن قضية ضئيلة الأهمية، كأغلب القضايا الأخرى، في نهاية ولاية إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إلا أنه من المرجح أن تعود لتحتل مكانًا مناسبًا في أجندة الرئيس القادم، مع ما يبدو وكأنه عقلانية ديموقراطية، من قبل «هيلاري كلينتون»، وزيرة الخارجية السابقة المتمرسة، وما يبدو وكأنه ميل غريزي وحاد للهند إن نجح «دونالد ترامب»، لدواعي اقتصادية، وأيضًا لدواعي تهميشه الغريزي، كجمهوري، للدول ذات الأغلبية المسلمة، إلا أن ذلك العامل الأخير لن يكون مؤثرًا كالعوامل الاقتصادية (تكنولوجيا – طاقة تحديدًا).
وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ووزيرة الخارجية الهندية سوشما سواراج، أثناء الحوار الاستراتيجي الأمريكي الهندي السنوي.
وبينما تقف الولايات المتحدة على مسافة تميل إلى قبلة الهند قليلًا، نجد موقف الصين لا يختلف كثيرًا، على الرغم مما روجته صحيفة «ديلي داون» الباكستانية، ومن ورائها صحف أخرى محلية، في الأيام الأخيرة، عندما قالت إن «يو بورين»، قنصل الصين العام في مدينة لاهور الباكستانية، نقل رسالة من الحكومة الصينية مفادها أن «الصين سوف تقف مع باكستان وتدافع عنها ضد أي عدوان هندي مستقبلي».
بالطبع نفت الصين ذلك، ولم تكتف بالنفي مرة واحدة وإنما مرتين في الأسبوع الحالي، وانتهجت نفس سبيل الولايات المتحدة، في رؤيتها للطرفين على أنهما صديقان لبكين، ورغبتها في رؤية حوار موسع حول كشمير، الأمر الذي لا يختلف عند تنقلنا من دولة كبرى لأخرى، فالجميع تقريبًا يقفون على مسافات متساوية من الجانبين، مع ميل مفهوم لنيودلهي، الطرف الأقوى، والأكثر منفعة اقتصادية بلا جدال.
على الرغم من ذلك، فإن أقطاب العالم الكبرى تقف بمثابة موانع ضخمة لـ «احتمالية حرب نووية»، الأمر الذي يخشاه عدد من الفاعلين في الجانبين، إلا أنه يبدو أمرًا مستبعد الحدوث، في ظل توازن ردع نووي فعال وصامد، وفي ظل معرفة أن أية حرب نووية ليس لها إلا نتيجة واحدة، وهي تدمير الدولتين، ومقتل ما لا يقل عن 12 مليون شخص من الجانبين، مما لا يدع مجالًا للجوء لحل كهذا، إلا أنه لا ينفي في الوقت ذاته احتمالية قيام حرب أخرى، وإن كانت مستبعدة تبعًا لفارق القوة الحالي لصالح الهند.
ساسة نت