“الحبوبات” خزائن الأسرار وشجرة الحكمة الوارفة
اتجهت العديد من الدول إلى وضع الجدات بدور الرعاية المعروف بـ (دار العجزة) في الوقت الذي لا يزال السودانيون يحترمونها ويقيمونها ويقدر مجهودها الذي بذلته في تربية أبنائها وظلت تقدمه لأحفادها بحب حتى قالها الفنان محمد وردي في رائعة الشاعر إسماعيل حسن (القمر بوبا) “الصغيرون أم الجنا يا كريم ربي تسلما تبعد الشر من حلتا جنه للأم الولدتا الفي جبل عرفات وضعتا تسلم البطن الجابتا دي ترباية حبوبتا”، ونساء السودان يشعرن بالفخر عندما يشار لإحداهنّ، ويقال “دي تربية حبوبات” لما تحمله من أصالة الفكر المعني، سيما في تلك اللحظة التي يلتف حولها الصغار تحجيهم وتسرد لهم القصص وتبث من خلالها القيم النبيلة وعادتنا السمحه بكل حب.
الأمهات والآباء يطمئنون على وجود أبنائهم مع الجدة، لا تتذمر أو تتضجر من وجودهم وتجد قمة سعادتها في ضجيجهم وركضهم حولها معها ذاهبون لعملهم ومناسباتهم وهم مرتاحي البال، فهي الأم الثانية، فلا تجدها تتذمر من الصغار، بل تكون في قمة سعادتها وهم يضجون ويركضون حولها، ودائما تتمنى وتدعو ربها أن يريها أحفادها وتقول “ربنا يوريني جنياتكم يا أولادي”، وكما يقول أشقاؤنا المصريون (أعز الولد ولد الولد)، منزل الجد والجدة (البيت الكبير) لا تقلق أبوابه أبداً، ولا يخلو من الأهل والأحباب كل هذه التفاصيل الحنينة نخاف عليها الاندثار، فالتفاف الأطفال الذي كان حول الحبوبة أصبح حول ألعاب البلي ستيشن والآيباد وغيرها من الأجهزة الإلكترونية حتى رعاية أبناء الأمهات العاملات بالحضانة بدلاً عن حضن الجدة التي طالتها يد الحداثة وأحدثت فيها بعض الغيرات وباتنّ ليسو بلهفة وحكمة جدات زمان “حبوبة نفيسة وحبوبة آمنة وخديجة”.
رعاية واهتمام
تفخر حبوبة عشة بتربيتها لأبنائها حتى كبروا وزوجتهم. وقالت: “كبروا الأولاد أما عيني وزوجتهم، وسعيدة أيما سعادة بأنني أعيد الكرة مع أبنائهم بنفس الحب وأبثهم الرعاية والاهتمام، ولا أقبل أن يعاملوا بقسوة وعنف”. وتابعت: “دائماً ما انصحهم بالتعامل الرحيم مع أبنائهم وأخبرهم أن يعاملوهم برفق، ويطولوا بالهم عليهم لا يصرخون في وجههم أو يضربونهم، وأوصيهم بأن يهتموا بمظهر أبنائهم ولا يأخذوهم إلى أي مكان، وأن يعاملوهم كما عاملتهم من قبل بالحسنة وكنت ولازلت مع صغاهم.. لا بنهرهم، لا بشاكلهم ولا بدقهم.. لا أعاقبهم على أخطائهم وأكتفي بتوجيههم”. وقالت: “للأسف أتجه الآباء لمعاقبة الطفل في كل صغيرة وكبيرة، وهذه من الأخطاء الشائعة لابد من تركها”. وأضافت: “رغماً من أن أطفال زمان كانوا قنوعين ويرضون بما يعطيهم لهم والديهم، إلا أنهم الآن باتوا صعبين بعض الشيء ولا يقبلون بأي شيء، فقد اعتادوا على الساندوتشات الجاهزة، وحتى على مستوى العلاقات تجدهم كثيري الخصام والشكوى من بعضهم البعض”.
أما البنات، فتقول عنهن (حبوبة عشة) “إنهن مظلومات فنحن وبناتنا لعبنا في طفولتنا مساءً مع الأولاد في الشارع (شليل) وغيرها الألعاب، ونجري بحرية دون ضوابط أو خوف من كلام الناس، الحياة تغيرت وصارت أكثر تعقيداً عن سابقتها، إذ نعمنا ورفلنا في حياة بسيطة مثلوا الجيران عنوان للأخوة الصادقة والتعامل الراقي زمن (توبي وتوب جارتي واحد، وحتى طبق الطعام)”.
أحجيات لا تنتهي
بالنسبة للأستاذ واستشاري علم النفس بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا دكتورة نجدة محمد عبد الرحيم، أن الحبوبة تمثل ركن الأسرة الأساسي. وتقول: “أي شخص لم تتح له الفرصة أن يستمتع بجدته افتقد أهم شيء في حياته، فالحبوبات خزائن الأسرار والمعرفة التي ينهل منها الأحفاد، وقضاء أفضل الأوقات معها بأحجياتها التي لا تنتهي، والتي تحمل في طياتها القيم والمفاهيم التي تخرج جيلاً سليماً ومعافى من كل المشاكل النفسية، وتعد مصدر الحكمة وشجرتها الوارفة التي يلجأ لها الجميع لحل جميع المسائل الشائكة، لخبرتها الواسعة”. ولفتت د. نجدة إلى أن كلمة (حبوبة) يصاحبها إحساس وعاطفة فياضة للدور المهم التي تقوم به، أما الآن كاد أن ينعدم دورها. وأرجعت السبب إلى حبوبات هذا الزمان صغيرات في السن ودرجة فهمهم للأشياء لا تزيد كثيراً عن أبنائهم فاستخدام التكنولوجيا ساهم كثيراً في تقاعسهن عن أداء دورهنّ بالشكل المطلوب، ما أدى إلى إحداث مسافة بين هذا الجيل وذاك، فالجدة الآن ليس لديها ما تقصه لأحفادها تجدها ممسكة بهاتفها الذكي وكذلك حفيدها، لا يوفرنّ لهم أي رعاية أو توجيه. ونبهت إلى أن هذا الجيل نسبة لما حدث من تغيرات مجتمعية وإحداث متسارعة فقدوا إحساسهم بحبوباتهم وبعضهم فقد حتى الاحترام والتقدير لهنّ ولا تجد من يقدم لها كوب ماء إذا لم تستأجر بعض الأسر لهنّ عاملات يقمنّ برعايتهنّ وخدمتهنّ.
الخرطوم – أميرة سعدالدين
صحيفة اليوم التالي