د. جاسم المطوع : كيف تعيش بذكريات سعيدة؟
كل واحد منا لديه ذكريات كثيرة فلحظات العمر لها قيمة كبيرة، لكننا لا نعرف قيمتها إلا إذا أصبحت ذكريات، وأحيانا نعيش لحظات نعتقد أنها أحداث عادية، لكننا عندما نتذكرها بعد زمن نشعر بسعادة تلك اللحظات، وفي بعض الأحيان نشاهد صورا لنا ونحن صغار فنشعر بسعادة تلك الأيام في حين أن هذه السعادة لم نشعر بها في وقتها، وأعرف أكثر من شخص يستمتع عندما يجلس وحده فيسبح في ذكرياته الجميلة.
فالذكريات وسيلة جميلة لراحة الإنسان لو كانت الذكرى سعيدة أما لو كانت حزينة فإنها تكون وسيلة للشقاء، والعقل في الغالب يحتفظ بكل حدث نعيشه في الحياة سواء كان حدثا سعيدا أم حزينا، إلا أن العقل بين فترة وأخرى يسترجع الذكرى التي تكون غريبة أو جديدة أو تجربة عملها الإنسان لأول مرة في حياته، وكلما استخدم الإنسان أكثر من حاسة للحدث كالسمع والبصر واللمس والشم تذكر الحدث أكثر، وهناك بعض الذكريات نادرا ما ننساها مثل حفلة التخرج من المدرسة أو الجامعة أو أحداث نيل الجوائز أو وفاة عزيز أو التعرض لحادث مؤلم، أو أول أيام الزواج أو الفراق فإنه من الصعب أن ننسي هذه الذكريات، لأننا استخدمنا فيها أكثر من حاسة في حفظ هذا الحدث، مثل لحظات الزواج الأولى اجتمعت فيها حاسة البصر واللمس والشم وأحيانا التذوق مع وجود الانفعال والمشاعر الجميلة فلهذا نادرا ما تنسى.
وقد اطلعت على تجربة مؤسسة خيرية تركية استثمرت الذكريات لعلاج مشاكل الاكتئاب والوحدة عند كبار السن، فابتكرت فكرة ذكية لعلاج الشعور بالوحدة والغربة الذي يعيشه كبير السن من خلال التعرف على الحي الذي ولد ونشأ فيه عندما كان طفلا، فتشتري المؤسسة الخيرية له شقة ليسكن فيها في نفس الحي الذي عاش فيه وهو طفل.
وقد طبقت هذا المشروع على أكثر من شخص فتغيرت نفسيتهم من الحزن إلي السعادة، لأن أكثر ما يسعد كبير السن أنه يعيش ويتحدث عن ذكرياته القديمة.
ولعل من طرائف ما سمعت من المحبين والعاشقين أن امرأة ذكرت لي أنها عاشت فترة مع رجل تعشقه وتحبه، ثم حصل الفراق بينهما، وإن الذي يسعدها الآن أنها تتذكر اللحظات السعيدة التي كانت تعيشها معه عندما كانوا متزوجين، وتقول لي ما زال قلبي يرتجف كلما تذكرت اللحظات السعيدة التي عشتها معه.
ومن عجائب الذكريات أنها تأثرت بشخصيتك وقراراتك بعد مرور فترة من الزمن من حيث لا تشعر، فكم من شخص صار يحب التجارة عندما كبر بسبب أنه كان يجلس مع والده التاجر عندما كان صغيرا، وأعرف امرأة لا تحسن الطبخ، لكنها صارت تحبه بعدما كبرت، لأنها كانت تساعد والدتها في المطبخ عندما كانت صغيرة.
فالذاكرة في الصغر تلتقط كل لقطة وتخزنها، ثم تستفيد منها في الكبر، وكل تصرف يفعله الوالدان مع ابنهما الذي في مرحلة الطفولة لا ينساه أبدا وتبقى في ذاكرته، وكم من مشكلة زوجية أو تربوية عالجتها عندما تعرفت على ماضي الشخص وذكرياته القديمة فاستطعت أن أفهم تصرفاته.
وقد نصحت امرأة غضب عليها زوجها بأن تستقبله عند دخول المنزل بفستان الزفاف وتضع نفس العطر الذي وضعته يوم زواجها منه، وقد فعلت ما نصحتها به فابتسم زوجها عند رؤيتها وتم الصلح بينهما لأني حركت عنده مشاعر الذكرى الجميلة.
ولهذا نحن نحتاج اليوم الى أن نخطط لأن تكون لأطفالنا ذكرى جميلة وسعيدة في حياتهم، من خلال كثرة الحركة واللعب والاختلاط بالآخرين وكثرة التجارب والسفر في الحياة حتى نثري ذاكرتهم، فالحياة البدوية أقرب إلى الحياة الصحية للطفل، لأن الطفل ينشأ على اللعب المفتوح في الخارج، أما أطفالنا اليوم فصاروا حبيسي الغرف والألعاب التكنولوجية وهذا يدمر ذاكرتهم وذكرياتهم.
ونختم بموقف حصل للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقد كان يتذكر خديجة – رضي الله عنها – بعد وفاتها عندما كان يسمع صوت أختها هالة بنت خويلد عندما تستأذن عليه فيهش لها ويبش فرحا وسرورا، لأن صوتها يذكره بحبيبته، فاحرص على أن تكثر أرشيفك من الذكريات الجميلة.