د. سلمان العودة : تعليم
يد أمي كانت تمسك بأصابعي الغضة وتصعد بي درج البيت الصغير، وتلقنني مع كل درجة كلمة: “بسم الله..الرحمن..الرحيم”، ويبقى المزيد من الزُّلَف فتكمل: العلي..العظيم.
تعليم عبر الاحتضان والحب، وفي بيئة محفوفة بالعطف والحنان.
مدرسة القرية كانت محضنًا أبويًا وامتدادًا لتربية المنزل. وكأن المدرسة، بل القرية، أسرة واحدة!
مكتبتي المنزلية المبكرة حوت كتبًا؛ كـ”فقه السنة”، و”رياض الصالحين”، و”ابن كثير”، إلى “السندباد”، و”الزير سالم”، و”قيس وليلى”، وقصص المغارات والكنوز.
طفلي اليوم يبكي كل صباح ويقترب مني محاولًا التجرؤ على إقناعي بأن مغصًا في بطنه، أو ضربةً في كوعه تقتضي أن يغيب عن المدرسة!
نحن إذن لم نغرس فيهم الميزة الأولى عند جدهم آدم: الرغبة في التعلم والاكتشاف و”الدهشة” من المعرفة الجديدة، ولا الحرية المسؤولة، ولم نجرِ عملية التعليم في جو عائلي تتكامل فيه الأطراف، كما حدث هناك.
تلقَّى آدم تعليمه في أفضل بيئة (الجنة)، ولذا تمكَّن من العيش على الأرض بسلام، كانت الأرض له مدرسة ولم تكن منفى!
تعبير القرآن عن مزية آدم كان بـ”التعلم” وليس بـ”العقل”، والعقل هو الأداة الأساس في التعليم.
كان مزوّدًا بملكة التفكير والنظر والتحليل والفهم والفقه واللغة، ولم يأت لفظ العقل مصدرا في نصوص الشريعة، بل جاء فعلًا: “يَعْقِلُون – يَتَفَكَّرُون – يَفْقَهُون – يَعْلَمُون – يَنظُرُونَ”.
ثم غموض في مفهوم العقل إذ يطلق على تلك الأداة، ويطلق على ما تنتجه أيضًا من علوم ومعارف، وحقائق وظنون، وموروثات ثقافية وحضارية، وأنماط تفكير.
العلوم العملية التطبيقية هي سر التفوق الإنساني وليس النظريات الفلسفية المجردة.
فُضِّل آدم بالعلم، ولذا سجدت له الملائكة، وفُضِّل بنو آدم بعضهم على بعض بالعلم، فـ “فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ” (أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الدرداء).
كان في جيناته حروف أسبقية فطرية يبحث فيها عن حاجاته (والمعرفة أهم حاجاته)؛ كما يبحث المولود الجديد عن الثدي!
كان سالمًا من “العقل الجمعي” والموروث العريض؛ الذي كبَّل بنيه فيما بعد فأربك تفاعلهم، وعطّل ملكاتهم وحرف فطرتهم عن مسارها، ووضع القيود والأغلال في أعناقهم!
تعلَّم آدم حروف الحمد على النعم، ومنها نعمة الحياة، فحين عطس قال: “الحمد لله”. معرفة الله بالقلب، والشعور بقربه ولطفه، وحضور معاني صفاته هي الأهم، وهي الركن الأول في الهوية الإنسانية.
استقبل الإلهام الرباني بمعرفة اللغات والأسماء وأعلن هذا العلم، وهو بهذا يثبت قدرته على “التعليم” وجدارته به وجرأته عليه أمام من لا يحصيهم إلا الله من الملائكة، والعجب أن التعقيب القرآني جاء بلفظ: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} (33: البقرة). فاختيار آدم كان على علم زكاه الاختبار، وسؤال الملائكة كان سؤال من لا يعلم لمن يعلم: “مَا تَعْجَبُونَ مِنْ جَاهِلٍ يَسْأَلُ عَالِمًا؟” (أخرجه أحمد) .
تعلَّم من الألم والندم، والتجربة والخطأ؛ فأسرع بالتوبة والتنصل والاستغفار. وحوّل الفشل والإخفاق إلى نجاح واستعادة للموقع وتقدم أكثر.
تعلَّم وزوجه الخصف؛ وهو نوع من الصناعة احتاج إليه حين تبدّت له عورته، وسرعان ما اهتدى لفكرة الأخذ من ورق الشجر، فالحاجة أم الاختراع، والمعرفة يجب أن تكون مواكبة للحاجات المتجددة للإنسان، ولو كان الإنسان سببًا في حدوث الحاجات بتجاوزه وظلمه.
تعلَّم وزوجه طبيعة العلاقة بينهما، ونطقا أبجدية الحب الأولى بفصاحة لا تردد فيها، ومضيا مع الفطرة الهادية المهدية صوب الوصال الجسدي والروحي والعاطفي والتكامل والإنجاب: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50: طـه) .
تابعوا أمر الحمل بدهشة رائعة، وفرحة غامرة، وداخلهم شعور يعز وصفه لرؤية وجه “التوأم” الأول!
ربما سقط جنين فتعلَّموا منه مراحل نموه، أو كان غير سوي الخلقة فخافوا على المواليد القادمين، إذ هم يدركون أنهم الآن على الأرض الجارية وفق السنن والنواميس والنظم الإلهية، وليسوا في الجنة التي يكون الحمل فيها والوضع والنمو في لحظة واحدة.
ولهذا تضرعا إلى الله بالدعاء: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (189: الأعراف).
والأقرب أن مقصود الصلاح هنا أن يكون المولود سليمًا معافى صحيحًا من غير علة ولا إعاقة ولا تشويه.
تعلَّم هابيل من الغراب طريقة الدفن، والغراب طائر فاسق، وهابيل فاسق يتعلم من فاسق، فالعلم ليس محظورًا دون أحد، ويؤخذ من كل أحد.
وتعلَّم النبي المعصوم سليمان من الهدهد، وتحقق من نبئه وبنى عليه.
الزلازل والبراكين وبعض الظواهر يحس بها الطير قبل الإنسان.
الحضارة تراكم إنساني، وأسعد الناس بها من أسهم في بنائها، وانفتح على خيرها، وتخفف من شرها.
والأفراد كما الأمم يجب أن يقبسوا من أصلهم الأول ديمومة التعلم والتعليم، وطلب الزيادة من العلم، والتعبد بالمعرفة حتى الموت {وَاعبد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (99: الحجر) .