التنقيطية السياسية.. مدرسة الجنوب
على عكس المدراس التشكيلية التي كانت تتمسك بالموضوع ووحدته، قرر بعض الرسامين الانطباعيين (الألمان) منهم على وجه الخصوص انتهاج اساليب فردية محاولين أن يضيفوا إلى اللوحة ما يعرف بـ(قسوة الخطوط)، أدى هذا الاتجاه الجديد إلى التمادي في فصل الألوان حد تقسيمها إلى نقاط صغيرة متمازجة، وهكذا ظهر إلى الوجود أسلوب جديد ومدرسة جديدة هي التنقيطية.
بطبيعة الحال تتفق هذه المدرسة مع سالفتها الانطباعية باختفاء الموضوع فيهما، وتتميز عنها بالنزوع إلى تفتيت الأشكال والقوالب بالقضاء عليها قضاء مبرمًا ونهائيًا (دون خلق وابتكار أشكال أخرى)، وهذا بالضبط ما درجت عليه النخبة الحاكمة في جنوب السودان، إذ سيسجل التاريخ الحديث للسياسيين الجنوبيين من منسوبي الحركة الشعبية لتحرير السودان (الحاكمة والمعارضة)، أنهم أول من استعار المدرسة التنقيطية من الرسم إلى السياسة، لكن دونما خلق وإبداع وابتكار أو إضافة. بل العكس تمامًا فالتنقيطية السياسية التي تنتهجها الحركة (الشعبية) سياسيًا و(عسكرِّيًا) لا تتسم باختفاء (الموضوع) فحسب بل بفنائه التام، هذا إن لم يكن بعدمه.
السياسيون من الحركة الشعبية، لا شك أنهم فقدوا بوصلتهم برحيل (قرنق)، الذي لا شك أيضًا أنه لم يترك إرثًا فكريا وسياسيا، بل ترك (تعاليم) شفاهية غير مدونة، إلا على مستوىً (خفيض)، وبالتالي ما إن وجد رهطه أنفسهم في سدة السلطة حتى نسوها أو أداروا لها ظهورهم وضمائرهم، فانخرطوا في قتال عنيف على لا شيء، قتال أعمى لا أهداف له إلا تحقيق الذوات والمصالح (الفردانية) الضيِّقة ولو أفضى ذلك إلى تدمير الحياة وإفنائها.
والحال، أن لا حلَّ منظور في الأفق إلا بإجبار الفاعلين الكبار في هذه (المعمعة) على التنحي، وعلى رأسهم (سلفا كير ومشار) ومفارزهما، ولأن ذلك لن يحدث قريبًا كونهما يحوزان على ترسانات من الأسلحة الفتاكة ويمتلكان عقليات ذات نزعات عنيفة وقاضية، وأرواحًا انتقامية، فإنهما لن يتخليا بإرادتهما عن الفتك بالمواطنين والبلاد، وبالتالي لا بد من طرف ثالث قوي وجبار وقاهر (دولي أو أقليمي) يجبرهما على التخلي عن السلطة فورًا دونما تأخير وإلا فسيستمران في الإبادة واستئصال شأفة الحياة، لن يعصمهما عن ذلك وازع إنساني ولا ضمير يقظ.
تقوم المدرسة التنقيطية لسلفا ومشار ورهطهما على أساليب عنيفة للحيازة على السلطة والانفراد بها، لذلك يضيفون إلى اللوحة الجنوبية المهترئة ما يعرف بـ(قسوة الخطوط)، ويتمادون في فصل الألوان حد تقسيمها إلى نقاط صغيرة غير متجانسة، لكنها شديدة القابلية للانفجار بمجرد (محاولة) لمسها، وها هي السلطة هناك تعتقل الصحافي الزميل (الفريد تابان) كونه أشار إلى ضرورة إقالة أو استقالة الذين تسببوا في كل هذا الأذى غير الضروري ولا المطلوب، فكان مصيره قاع زنزانة وهو مصير أهون بكثير مما حدث لعامة الشعب الجنوبي من قتل وتشريد على الهوية القبلية، لقد دفع الجنوبيون ثمن حريتهم واستقلالهم باهظًا بسبب رواد المدرسة التنقيطية اللعينة والقاسية، وها هم ينتظرون مزيدًا من الموت ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة من أجل تفتيت هذه النقاط الدموية المميتة.
وكان الله في عون الشعب الجنوبي.