بين بؤس الحال الذي يضحك وبؤس الضحك الذي يبكي..!!
٭ أغلب الأقاصيص والحكايات والمآثر والأمثلة في الأدب والتاريخ، دائماً تقاس عليها الأفعال والأقوال المعاصرة. ودائماً ما تكون الحكايا والحكم والأمثال في مستوى المطلق الذي تتقاصر عنه نسبيات الواقع وأزماته وكوارثه.. كان هذا ما ثبت في جناني وعقلي، فما تخيلت يوماً أن أزماننا وكوارثنا وإشكالاتنا مهما تزايدت سوف تتجاوز سقف الحكايات والأمثال والعبر المنشورة في كتب فصوص الكلمة وأوراق التاريخ.
٭ ولكنني اكتشفت أن تراجع الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ببلادنا العربية، قد تجاوزت كل مأثوراتنا الشعبية وحكمنا القديمة، بل أن هناك نصوصاً إبداعية أهلكها الواقع وأهلكته تماماً.. فحرتُ ما الذي نستطيع أن نزيفه ليوافق بعضه البعض.. تزييف الأمثلة المطلقة لتتواضع؟ أم تزييف الواقع وإطلاقه من نسبيته البائسة ليوافق مطلق الأمثلة والأحاديث والأراجيز والألغاز المعيارية في تراثنا؟.. تلك كنا نقيس عليها فنضحك أو نبكي من المفارقة.
٭ وحتى تكون محاولتي قائمة على اقتسام الحكم والحكمة ما بين كاتبها والقارئ الكريم، فتعالوا لنجعل المثال الشاخص هذه الحكاية التي روتها الكثير من كتب النوادر والمفضليات العربية التراثية نثراً أو شعراً.
فقد قال الشاهد إنه لما مات أحد الخلفاء الأقوياء من أهل الإسلام المعاصرين لدولة الروم.. اختلفت الروم حول الحدث، واجتمعت ملوكها بأمرائها وقساوستها وحكمائها ومن هم حول السلطان والصولجان فقالوا: الآن يشتغل المسلمون بعضهم ببعض.. فيغفلون، فتمكننا الغرة منهم والوثبة عليهم لانهاء سلطانهم. وعقدوا على ذلك الورش والمؤتمرات والمشاورات السري منها والجهير.. وتراجعوا بالاقتراحات والمراجعات والمناظرات.. فاجتمع رأيهم بأن هذه فرصة الدهر.. وقد كان رجل منهم من ذوي العقل والمعرفة.. ولما كان الرأي غائباً عنهم في كيف يدبرون المؤامرة على المسلمين بعد موت خليفتهم.. قالوا إنه لمن الحكمة والحزم عرض الرأي على حكيمنا وخبيرنا هذا، فلما أخبروه بما أجمعوا عليه من حزم بضرب المسلمين وهم مشغولون بموت خليفتهم.. قال لا أرى ذلك صائباً، فلما سألوه عن العلة طلب منهم أن يمهلوه حتى الغد القريب، فلما أصبحوا أتوه مقبلين ومترعين بأشواق الرأي قالوا: وعدتنا أن تخبرنا في هذا اليوم بما عولنا عليه.. قال سمعاً وطاعة.. وأمرهم بإحضار كلبين عظيمين جائعين على غير إفراط، كان قد أعدهما ثم حرّش بينهما وحرّض كل واحد منهما على الآخر، فتواثبا وتهارشا حتى سالت دماؤهما.. فلما بلغ الغاية فتح باب بيت عنده وأرسل على الكلبين ذئباً كان قد أعده لذلك، فلما أبصراه تركا ما كانا عليه وتآلف قلباهما ووثبا جميعاً على الذئب فقتلاه..!!
ولما ارتوت الأعين والأفئدة بالمنظر من كل زواياه، أقبل الرجل على أهل الجمع فقال: مثلكم مع المسلمين مثل هذا الذئب مع الكلبين. ولا يزال الخلاف والهرج بين المسلمين قائماً، ما لم يظهر لهم عدو من غيرهم.. فإذا ظهر تركوا العداوة بينهم وتآلفوا على العدو.. فاستحسن الروم رأيه..
وهذه صنعة العقلاء كما يقول صاحب ثمرات الأوراق، وتركوهم ينتاشون بعضهم دون أن يتوحدوا عليهم.
٭ ضحكت بعد استعراض الحكاية، واستغرقت في الضحك حتى أدمعت.. كانت الأدمع ما بين بؤس الحال الذي يضحك وبؤس الضحك الذي يبكي الحكيم وعاقل الروم.
فنحن يا سادة بعد أن مات خليفتنا تهارشنا وتواثبنا حتى سالت دماؤنا تماماً مثل كلبيك وأزيد.. ثم رمانا الروم بإسرائيل «ذئب الواقع والحكاية» ضاربين بحكمتك القديمة ورأيك السديد عرض الحائط.
٭ ويا حسرة التوقع، فبدلاً من أن نسكت التهارش بيننا والخصام.. ازددنا فيه «وبالغنا» واجترأنا على الحق والباطل في الخصومة.. فصارت اسرائيل ذئب الروم الجديد مدعاة للتنافر، بدلاً من أن تكون مدعاة للتوحد. وقد رأينا باعترافنا العدو وهو يقتل ويفتك ويحتل ويبني ترسانته النووية، فازددنا تشرذماً وتصادماً وقطيعة وقطرية.
٭ إن حكيم الروم في سالف الزمان والمكان الوسيط، يبدو أنه قد تحرّر وغيّر نظريته وآلياته الصدئة وفكره تماماً، فصارت نظرية تهارش الكلاب وتوحدها بعد ظهور الذئب نظرية بالية، رغم اتساقها مع الطبيعة السوية للبشر والحضارات.. ولأن العرب قد أصبحوا آخر الزمان ليسوا من الأسوياء وليسوا من العقلاء، فكان لابد من ابتكار نظرية شائهة ولكنها تعمل للتسيُّد والسيطرة. وها هي تنجح، فكلما استأسدت اسرائيل ازدادوا تفرقاً وشتاتاً.. فبالأولى تلك هزمنا الروم وبالجديدة هذه انتصروا علينا.
ولذا فإنني اقترح كرسياً لاستاذ متخصص بكل جامعاتنا العريقة، لدراسة الحالة العقلية والشعورية للانسان العربي المعاصر ومنظومته في الحكمة والسياسة والدفاع.. وكيف آلت حالته لهذا الضياع الذاتي الذي جعل عقلية الكلاب الغريزية واحساسه بالتوحد ضد العدو المشترك، تتفوق على عقلية الانسان العربي بكل ارثه وثقافته وعقيدته.. العربي الذي ينتكس كلما رأى المخاطر ويتمزق كلما رأى العدو، ويرتد كلما رأى التآمر المحبط والمحيط.
كرسي لأستاذية سيكولوجية النكوس للعقل العربي، وهو يتجاوز المثال والتشبيه والحكمة وأبيات الشعر ومبالغات الفصحاء وإعادة غربلتها لمشابهة هذا التشوه المطبوع في رقعتنا، فالعالم العربي اصبح في حالة انقلاب لغوي وشعوري وتعبيري شامل، فالواقع العربي ليس أسود كالليل. ولكن الليل اصبح أشد سواداً من الواقع العربي.. العالم العربي ليس فارغاً كفؤاد ام موسى، بل ان فؤاد ام موسي اصبح اشد فراغاً من فؤاد العالم العربي.
السوء العربي اصبح قياسياً ومعيارياً للكوارث والازمات والتجاوزات والمبالغات.
٭ عزيزي القارئ لا بد ان تجد معي بعض الاعتذار الدافئ لعاقل الروم الذي تبددت حكمته وضاعت هدراً.. فبدلاً من ان نستدل بها من باب الاحتراز والحيطة والتدبر.. اصبح الواقع المرير الحالي فوق حالات الحكمة والعبرة والحذر والاستعداد.. واذا استمر الحال على حاله، فسوف تسقط عن المكتبة العربية كل كتابات الرشد والأمثال والحكمة والاعتبار، مثلما سقطت كل الكتابات الفكرية والأدبية والسياسية والتحليلية، ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي العظيم والمنظومة الاشتراكية، حتى صار أغلى امنيات مفكري اليسار العربي الحالمين بالأمس بقيادة للجماهير، صار حلمهم الآن مجرد وظيفة تافهة للعمل كمستشارين وأدلاء في أجهزة التخابر الامريكي والأمم المتحدة، تحت لافتات العلمية والأكاديمية وحقوق الانسان .. خبراء في دراسة التطرف الاسلامي ومحاربة القوى الظلامية التي تزحف ليل نهار لنحر العالم الحر وألوية الديمقراطية.. إن الحلم بالقيادة والقوادة في الزمان الامريكي والاسرائيلي انمحت فوارقه، فلم يجد البصير حتى شعرة التفريق.