خواطر من وحي حريق مدينة واو
ما أقسى الحرب وما أشنعها، فقد دمرت مدينة واو بدولة جنوب السودان وأصبحت مجرد أطلال خاوية خلال يوم واحد من القتال العنيف الذي اشتعل بين الجيش الشعبي وقبائل الفراتيت التي بادرت باحتلالها قبل أن يستعيدها الجيش الشعبي بعد معارك عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، لكن الأدهى والأمر أن الجيش الشعبي الذي تشكل قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها الرئيس سلفاكير غالب جنوده ارتكب من الفظائع والمذابح في حق الفراتيت ما لم تشهده تلك القبائل المسالمة طوال تاريخ الصراع الطويل بين الجنوب والشمال.
قبلها شهدت المدينتان الأخريان الكبريان جوبا وملكال حروباً مدمرة استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة وأصبحت ملكال تحديداً مجرد قرية بائسة مسواة بالأرض لا تلحظ فيها غير مظاهر الحريق.
كنت استشهد بما نشرته مجلة الإيكونوميست البريطانية وهي تؤكد أن عدد القتلى بين الجنوبيين خلال شهرين من بدء اندلاع القتال في منتصف ديسمبر 2013 في مدينة جوبا بين الدينكا والنوير الذين ينتمي إليهم نائب الرئيس رياك مشار تجاوز كل من قتلوا في آخر جولة من القتال بين الشمال والجنوب خلال 22 عاما أي بين 1983 وعام 2005.
ما ذكرته الإيكونوميست حول عدد القتلى من الجنوبيين مقارناً بأعداد الذين قضوا في القتال مع الشمال أكده كذلك وزير الخارجية الجنوبي دينق ألور في لقاءات صحافية خلال زيارته الأخيرة للخرطوم.
مدينة واو تعتبر واحدة من المدن الثلاث الكبرى في جنوب السودان وهي عاصمة إقليم بحر الغزال الذي تشكل قبيلة الدينكا ، كبرى القبائل الجنوبية ، غالب سكانه.
ما حدث بين الفراتيت والدينكا من صراع تكرر مع بقية القبائل خاصة النوير القبيلة الثانية من حيث عدد السكان ومع الشلك والمورلي والقبائل الإستوائية مثل الباريا واللاتوكا والمنداري والزاندي وغيرها وكلها على خصام تاريخي مع الدينكا سيما وأن مدينة جوبا عاصمة الجنوب تابعة للإستوائية الكبرى ويمارس الجيش الشعبي أبشع أنواع التنكيل والقهر ضد الأستوائيين أصحاب الأرض بغرض إخلاء مدينة جوبا لتقطنها قيادات الدينكا وزعماؤهم الذين كانوا يفكرون في اتخاذ عاصمة بديلة لجوبا تكون في إحدى المناطق التي يقطنها الدينكا ووقع الاختيار بالفعل على مدينة رامشيل ولكن الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي توالت على الجنوب عطلت ذلك المشروع.
نحمد الله كثيراً أننا في منبر السلام العادل كنا سباقين حين نظرنا بعين زرقاء اليمامة إلى ما ينطوي عليه النظر القاصر الذي سجن الساسة الشماليين في نفق تلك الوحدة الملعونة بعاطفة مجنونة ازدرت العقل وتنكبت طريق الحل الناجع خوفاً من الصدع بحقيقة الملك العريان الذي ظل يتبختر أمام الجميع بينما الناس مخدرون بوهم جعلهم لا يصدقون ما تراه أعينهم من هوة سحيقة ظل السودان يتردى فيها يوماً بعد يوم جراء جهل قياداته وعجزهم عن مواجهة الحقيقة المرة.
الآن انكشف المستور حين علم الناس أن القبائل الجنوبية لم ولن تعيش حتى مع بعضها البعض دعك من أن تتعايش مع الشمال الذي تبغضه وإذا كانت الحرب التي استغرقت نصف قرن من الزمان بين الشمال والجنوب لم تقنع قصار النظر بخطل التشبث بتلك الوحدة المجنونة فإن الحريق المشتعل في الجنوب منذ أن خرج من حياتنا كان ينبغي أن يقنع من لا عقل له ولا نظر .
العجب العجاب أنه بالرغم من كل ذلك فإن هناك بعض من لا يتجاوز مدى بصرهم أرنبة أنوفهم لا يزالون يتباكون على الوحدة.