احمد يوسف التاي : بلاوي الاستثمار(1و2)
بلاوي الاستثمار
كثيراً ما يتحدث المسؤولون عن مشكلات ومُعيقات الاستثمار، ويصوبون النقد على ما يسمونه (البيروقراطية)، ويتحاشون لفظ الرشاوى التي (مرغت) أنف الاستثمارات الأجنبية في التراب.. ملف الاستثمار يظل من أعقد الملفات وأكثرها تجاوزاً وأخطرها على الإطلاق، وأنتنها فساداً، حتى سعى فيها الفساد على (رجلين) و(أربع).
قبل عامين استمعت إلى النائب عبد الله جماع وهو يجأر بمر الشكوى من داخل البرلمان، ويشير إلى واقع استثماري بئيس بفعل انتعاش حركة السمسرة وكثرة (الرشاوى) و(الإكراميات) وغيرها من الأساليب الفاسدة والماكرة، والخطورة تكمن في أن منسوبين للجهاز التنفيذي أحجم عن ذكرهم الرجل، يلعبون دور (الساتر) لهذه الممارسات نظير (عمولات) وفوائد خاصة.
في تلك الأثناء كان البرلمان يناقش قضية ضعف ولاية وزارة المالية على المال العام، حينها رمى مستشار رئيس الجمهورية آنذاك الدكتور غازي صلاح الدين البحيرة الساكنة بحجر كبير، وذلك عندما قال: «مازالت هناك أركان خفية لا تصل إليها الأيادي».. أما الأركان الخفية التي تحدث عنها غازي ولم تصل إليها الأيادي، فلعله يقصد بها المحاسبة فهي بيت القصيد ومربط الفرس، وهنا نلاحظ قوله (أركان) ولم يقل موظفين صغار.
وهذا هو التحدي أمام وزير الاستثمار إن كان ينشد بيئة استثمار نظيفة وخالية من الرشاوى و(الكومشنات).
وفي غضون تلك الأيام نشر أحد المسؤولين عن استثمارات جمعة الجمعة في السودان بصحيفة «الإنتباهة» مقالاً أشار فيه إلى فساد مسؤولين بالدولة، وحصول بعضهم على عربات (مرسيدس) وغيرها من الرشاوى الكبيرة، وهو ينقل عن جمعة الجمعة هذا القول الخطير وينعت أولئك المسؤولين (المرتشين) بأبشع الصفات التي لا يجرؤ أحد على نشرها في الصحف، وهو يتحدث كذلك عن بيئة استثمار فاسدة جداً، يومها والله العظيم خجلنا للإهانة التي طالت مسؤولين (مرتشين) – إي والله هم يرتشون ونحن نخجل لهم، نعمل إيه!.
بعض المسؤولين في سباق التبريرات يحمِّل المستثمرين الأجانب مسؤولية إفساد بعض (الموظفين) وإغرائهم بالرشاوى، من خلال عدم اتباعهم القنوات الرسمية، أي دخولهم بالشباك بدلاً من الباب.. ظاهرة السمسرة وابتزاز المستثمرين والرشاوى والإكراميات التي يحصل عليها بعض الموظفين في الجهاز التنفيذي نظير التغطية للسماسرة الكبار والتستر على هذا العبث، تعد من أكبر المهددات التي تنذر بانهيار الاستثمار في البلاد بل انهيار الاقتصاد القومي، وهل في ذلك من شك؟!
تذكرت كل تلك البلاوي وأنا أطالع حديثاً قبل فترة، منسوب إلى السفير التركي ذكر فيه أن البيروقراطية وراء ضعف الاستثمارات التركية والأجنبية بالسودان.. لنتفق معكم جميعاً أن البيروقراطية هي السبب لكن يقيني أن هذه التعقيدات يصنعها سماسرة الاستثمارات الأجنبية ليُرغموا بها المستثمرين على (الدفع)، إذن القضية الجوهرية هي تنظيف بيئة الاستثمار من أباطرة الفساد والرشاوى وإحكام القوانين التي تقطع دابر هؤلاء العابثين بأمن واقتصاد البلاد.. اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله وثق أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.
…
بلاوي الاستثمار 2-2
لاحظت، كثيراً ما يبشرنا كبار المسؤولين بالدولة بأن هناك أعداداً هائلة من المستثمرين الأجانب (يتجهون) لإنشاء مصانع كبرى بالبلاد، وهناك شركات عالمية كبرى (أبدت) رغبتها في إنشاء مشاريع كذا وكذا بالسودان، آخر هذه الأخبار الداعية للتفاؤل ما أخبر به أحد الوزراء وهو يحدثنا عن أن عدداً من الدول الكبرى (تتجه) لنقل مصانعها الضخمة للسودان..
وأقول لهؤلاء جميعاً، أنتم محقون فيما نقلتموه لنا من أخبار متفائلة، ومحقون أولئك الذين (يتجهون) للاستثمار في أرضنا التي ما زالت في خدرها عذراء، وكذا أولئك الذين (أبدوا) رغبتهم في إنشاء المصانع والمشاريع الكبرى في أرض السودان البتول..
ما يذكر في هذه القضية كله حقيقة، لكن لهذه الحقيقة وجهان يُبدون أحدهما ويتغافلون عن الآخر، والوجهان أحدهما مشرق يبعث الأمل ويدعو للتفاؤل، وهذا هو الذي يحدثنا عنه المسؤولون، وهو ما يرفع سقوفات العشم والآمال في مشروع نهضوي سوداني، ولا غَرْوَ في ذلك فأرض السودان ما زالت هي مستودع الثروات والكنوز التي لم تكتشف بعد، والموارد التي لم تستغل حتى الآن، والأراضي الزراعية الخصبة الواسعة والمياه الوفيرة سطحية وجوفية، فهي أرض واعدة لمستقبل واعد، ولا شك أن بلاداً بهذه المواصفات سيسيل لها لعاب أي مستثمر، ولهذا عندما يبدي المستثمرون الأجانب رغبتهم في العمل بالسودان وفقاً لدراسات استيقنتها أنفسهم، لا نستغرب.
وأما الوجه الآخر للحقيقة ذاتها فهو قبيح يكدر النفوس ويصليها إحباطاً وهو ما يدعو إلى التشاؤم، وهو المعضلة التي تقطع الطريق أمام المستثمرين وتحول دون الاستفادة من رؤوس الأموال الأجنبية التي ستساعد على نجاح مشروع السودان النهضوي..
الوجه القبيح الذي يقفز المسؤولون فوقه هو ذلك الجانب الأمني والذي يعد الركيزة الأساسية لاستجلاب رؤوس الأموال الأجنبية، فكيف للشركات الكبرى والمستثمرين الأجانب أن يتجرأوا بنقل استثماراتهم من بلدان مستقرة سياسياً وأمنياً إلى أخرى مضطربة سياسياً وأمنياً، ويواجه اقتصادها شبح الانهيار وتأخذ بخناقه الأزمات والنكبات..
إذن المطلوب أولاً تهيئة المناخ للمستثمر الوطني قبل الأجنبي ومنع تسريب رؤوس الأموال الوطنية للخارج وذلك عن طريق خلق قاعدة صلبة من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وهذا لن يكون إلا بتحقيق مصالحة عامة ووفاق وطني شامل وتسوية سياسية لكل القضايا السياسية والأمنية والتي لا بد أن تُفضي الى انتهاء الحرب تماماً والقضاء على التشوهات الاقتصادية، وعدا ذلك لن يكون هناك استقرار ولن تجرؤ رؤوس الأموال الأجنبية على الدخول في أية مجازفة غير محسوبة النتائج، كما أن رؤوس الأموال الوطنية هي الأخرى ستخرج للبحث عن ملاذ آمن ووطن مستقر لا تكدر صفو عيشه الحروب ولا تقض مضجعه الصراعات السياسية ولا انتقائية تطبيق القانون.
وخلاصة القول فإن التبشير بالاستثمارات الأجنبية في ظل هذه الأوضاع المضطربة سياسياً واقتصادياً وأمنياً سيظل مجرد أحلام ما لم يحدث الاستقرار السياسي أولاً والاستقرار لن يتحقق إلا بالمصالحة والوفاق الشامل وهذا لن يكون بالخداع والتخدير وشراء الوقت، و (الكنكشة).. اللهم هذا قسمي فيما أملك ..
نبضة أخظيرة :
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.