المبادرة القومية للسلام والإصلاح.. بين السياسة والتسييس
كتب الأستاذ عمر العمر (6 يونيو 2016) مقالاً رصيناً مركزًا على ضرورة إثراء النقاش حول مذكرة المبادرة القومية للسلام والإصلاح “لإبقاء جذوتها متقدة”، وقريباً من ذلك المعنى كتب الأستاذ بشير عبدالقادر (7 يونيو 2016).ولا أريد أن ينطبق عليّ المثل القائل “البكا بحررو أهلو” مع أن “أهل البكا هنا كل السودان”، على كلِ وبعيد عن ما يرمى إليه المثل الشعبي كنت بالفعل قد بدأت كتابة مقال حول المذكرة وتعثرت الكتابة بسبب المشغوليات،وأعترف أني وجدت في مقال عمر العمر حافزاً للعودة واستكمال المقال.
لا أريد أن أتوقف حول حقيقة أن كاتب هذه السطور هو واحد من الموقعين على المذكرة، وأريد أن أؤكد أنني أكتب من باب تعضيد الفكرة العامة للمذكرة،وليس من باب التعقيب على الآراء القيمة التي عارضت أو أيدت أو تحفظت على ما جاء فى المذكرة. ولا أعبر هنا عن موقف موحد معد مسبقاً مع أعضاء المذكرة، بل أذهب أبعد من ذلك إلى أنه ليس بالضرورة أن يتفق معي جميع الموقعين على تفاصيل مقالي أدناه،إلا أني أعتقد أن الروح العامة تعبر عن الفكرة وراء مذكرة ال52.
مبادرة لخفض حدة الاستقطاب السياسي:
تتسارع الأحداث وتتزاحم الأفكار في الذهن، وبين هذا وذاك تثير هذه الأسطربصورة غير مرتبة بعض الملاحظات حول المذكرة “لإبقاء جذوة المذكرة متقدة” وفي البال مقال سابق لرئيس تحرير إيلاف خالد التجاني حول “إعادة تعريف السياسة” ومقال “تكلفة الحكم”،ومقال لدكتور صديق أمبدة “حول توسيع مفهوم الخيانة”.
من بين ما تتطلع إليه المذكرة تصور للدور المرتجى للسياسيين في التنافس على خدمة المواطن وإعلاء راية الوطن كأولوية في سلم أجندة الطبقة السياسية. وسنغامر هنا ونقوم بعملية جرد حساب الربح والخسارة في حالة حكم التكونوقراط “المؤقت” وحكم السياسيين “الدائم” ونتساءل بعد جرد الحساب ما الذي يكسبه المواطن منأييٍ منهما؟ وفي هذا السياق يستعرض المقال على عجالة الحكم المحلي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتجربة إخراج خدمات الصحة والتعليم من دائرة الصراع السياسي والفائدة العائدة على الموطن من ذلك.
ومن وحي هذه التجربة يحاجج المقال باتجاه “نقل قضايا الوطن في الوقت الراهن” أيضًا خارج دائرة الصراع السياسي. لكن قبل ذلك هناك حديث عن إحساس الموقعين على المذكرة بالمأزق العميق الذى تمر به البلاد وضرورة تقديم تنازلات متبادلة للخروج من الأزمة. ومقترح حكومة التكنوقراط هو مطلب لخفض حدة الاستقطاب السياسي والتسييس الزائد وصياغة عناصر سياسات عامة تصلح لمشروع وطني ينهض بالبلاد.
ليست الأولى للخروج من المأزق الوجودي:
يمكن القول أن اتفاقية السلام 2005 قد أوقفت الحرب بين الشمال والجنوب، وتجاهلت ما يجري في دارفور ومع ما تحقق إلا أنها بإبقائها على الاحتمالات مفتوحة قد أدخلت البلاد “مأزق” أن تبقى موحدة أم ممزقة؟وتتواصل الدراسات والجدل حول من المسؤول عن ذلك (سلمان محمد أحمد سلمان 2016). أياً كان، فقد أدى تشابك المصالح الداخلية والدولية والإقليمية فيتشكيل الواقع المأزوم والمعاش اليوم. ومع ذلك هذا التوصيف لا يعكس كل دينامية الواقع فهناك قوى سياسية واجتماعية لها مواقف ورؤى مستقلة سواء حول اتفاقية السلام 2005 (وما فيها نقاط قوة ونقاط ضعف)، أو حول الوضع السياسي العام بعد مرحلة اِنفصال الجنوب، وما جرى من انتخابات وحوار وطني. المجال هنا ليس لاستعراضهذا الوضع ومتغيراته، فقط نود الإشارة إلىأن هذه القوى لا تعوزها حيلة التعبير عن مواقفها بالرغم من العنت والعسف.
أشيرهناإلى مبادرةعام 2008م،التي تقدم بهاعددمنالأشخاص (كنت من بينهم ومعي عددمن الموقعين على المذكرةالحالية،وآخرون منهم دكتورحيدرإبراهيم – نسأل الله له عاجل الشفاء) في محاولةلاستثمارمناخ الحراك النسبى الذي أوجدته الاتفاقية بالعمل لتجاوز نقاط ضعفها بتقديم “مبادرة” لتمديد فترة الانتقال لمدة ثلاثة أعوام، ، خاصة وقد ضاع النصف الأول من الفترة الانتقالية في مناكفات وصراعات الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)،وقام مضمون المبادرة على تخصيص ما تبقى من عمر الفترة الانتقالية، بالإضافة إلى الثلاثة أعوام الإضافية (2008-2014) لبرنامج وطني يبني على ما تحقق في اتجاه الالتزام بتنفيذ سياسات تعزز الوحدة وتعالج الاقتصاد وتعبر بالبلاد للاستقرار والديمقراطية والتنمية.
التقى أصحاب المبادرة بعدد من السياسيين من بينهم السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، والشيخ أزرق طيبة القائد الاتحاديوعلى ما أذكر قد أبديا موافقتهما الإيجابية وطلب قادة آخرون الوقت لدراستها،بينما جاء الاعتراض على المبادرة من الشريكين في السلطة (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) وتقديرنا أنهما اعتقدا أن المبادرة ستكون خصمًا على نصيبيهما من السلطة، وهذا ما فطن إليه أصحاب المبادرة بالإبقاء على أنصبة الحكم مع استحداث مجلس رئاسي بسلطات محدودة لاستيعاب الأحزاب السياسية وإدخال ممثلين للمجتمع المدني والنقابات والمرأة. كما ذكرت المجال لا يسمح بالتفصيل.
لماذا فشلت مبادرة تمديد الفترة الانتقالية عام 2008؟:
لماذا لم تنجح المبادرة عام 2008، ؟ تتعدد ألاسباب، أحد هذه الأسباب الحرص الشديد من الحزبين الحاكمين وقتها على تأمين مواقعهما في السلطة وشعورهمابأن المبادرة وإن حافظت على نصيبيهما من السلطة إلا أنها وبما تحمل من أجندة وطنية بدلاً عن الأجندة الحزبية (القائمة على المحاصصة) قد تخلق وضعًا تصعب السيطرة عليه من قبلهما. فى واقع الأمر هذا مفهوم من جانب أصحاب السلطة، وهم من هم يعمهون فيإطار سوق السياسة الذي تتحكم فيه المضاربات والمزايدات (high discount rate)لخدمة المصالح الآنية والضيقة،إلا أنه فات عليهم أن التنازل كثيرًا أو قليلاً يؤمن المصالح على المدى البعيد أكثر من التشبت بالعاجل على حساب الآجل.
تحديات الوقع والتنازلات المطلوبة:
واقع اليوم لا يختلف كثيرًا من حيث الاحتمالات المفتوحة،ونظريًا على الأقل هناك اعتراف بخطورة المرحلة كما تشىء بذلك مداولات الحوار الوطني ومساعي الاتحاد الافريقي. ودافع الموقعون عن المذكرة بأنها العمل المشترك مع أهل النظام الواعين بخطورة المرحلة،والذينهم على استعداد لإبداء التنازلات المطلوبة لتوازن المصالح مع القوى التى تقف على الضفة الأخرى فيإطار “تسوية تاريخية” للعبور بالبلاد من المأزق الراهن. ولولا أن مفردة”إنقاذ” قد ابتذلت وانسلخ عنها كل معنىً إيجابي لغةً واصطلاحاً لقلت “إنقاذ” البلاد. أو لنقل إعداد المسرح أو تهيئة الملعب أو ترتيب الساحة للقوى السياسية لما بعد المرحلة الانتقالية.
المذكرة لا تروم – ولا ينبغي لها – إلغاء الصراع السياسيأو تهميش دور القور السياسية من أحزاب وحركات وتجمعات، ولا يمكنها ذلك وإن اِرتأت. وأعتقد أن جل ما تهدف إليه المذكرة هو كسر حدة الاستقطاب السياسي ووضع قواعد تحكم الصراع أو اللعبة السياسية – تهيئة الملعب إن صح التعبير للقوى السياسية لمنافسة نزيهة وشفافة.
دعوة لاختبار الجدارة السياسية:
باختصار نعني بالسياسة ادارة الشأن العام من خلال مؤسسات الدولة بما يكفل المصالح الخاصة (والمتباينة حد الصراع) لمكونات المجتمع بما يتفق مع المصلحة العامة للكل وفي اطار دستوريحدد القواعد التييجب الالتزام بها من قبل مكونات أو اطراف العمليةأو اللعبة السياسية. ونقصد بالتسييس سعيإحدى المكونات او أطراف العملية السياسية إلى خرق القواعد واقحام عنصر أوعناصر من شأنها اضفاء ميزة “خارجية” لتقوية موقفها تجاه الأطراف الأخرى. مثلا تسييس الجيش يعني اقحامه في العملية السياسية ويبعده عن وظيفته الدستورية، وكذا الحال بالنسبة للخدمة المدنية، القضاء. ويمتد التسييس لتوظيف الانتماءات (العرقية والدينية) التي من شأنها اعطاء قوة اضافية لمن يحركها ويعبئها ولكن حصيلتها إضعاف التوافق الجمعي بين مكونات المنظومة السياسية. والحد الفاصل بين السياسة والتسييس رقيق ولا يخلو من الضبابية– والمجال لا يسمح بالتفصيل.
بالطبع لا أحد يقف مع حرمان المواطنين المتطلعين للعب دور سياسي ممثلين لقواعدهم او مناطقهم من العمل السياسي،فقط التأكيد عليهم بضرورة النأي عن توظيف وتأجيج الانتماءات الأولية من قبلية، وإثنية، ودينية مطية لتطلعاتهم التي تبدو مشروعة. في واقع الأمر الذين يتحدثون عن تخلف مناطقهم أو تمثيل المجموعات التى يتنمون إليها تسندهم وقائع من الصعب تفنيدها ولكن هذا لا يبيح لهم احتكار تمثيل المنطقة أو أهلها وتحريمها على الاخرين حتى لو كانوا من خارج المنطقة او المجموعة الاثنية. فهناك من ينطلق من ظاهر تمثيل مجموعته الإقليمية، الإثنية، الطائفية، أو الفئوية ولكنه قد يخفي داخلها مصلحته الطبقية أو الفئوية التى تطفو على السطح عندما تتهيأ لهم التمكن من المجالس والمنصاب العامة.
ولا تغيب عن أذهاننا ملاحظة أن الذين احتلوا هذه المجالس والمناصب الدستورية هم أفراد الطبقة السياسية الصاعدة منذ السبعينيات على ظهر الشمولية – الذين لم يجدوا حرجا من تسييس الولاءات الأولية والانتماءات العشائرية والقبلية والمناطقية التى التقت مصالحها الفئوية الضيقة مع النظم المركزية – الشمولية. وبغياب البرامج الخدمية المستندة على دعم وتأييد المواطن انتعشت النعرات القبلية والعشائرية والجهوية والدينية والطائفية وغذت شبكات المصالح والزبائنية واصبحت كل منطقة وعشيرة وقبيلة تقدم “أبناءها” لتمثيلها ويهتبل الأبناء (والبنات) الفرصة للحراك لأعلى السلم الاجتماعي والطبقي.
ومقترح الاصلاح – وأن لم يفصل في المذكرة – يشجع على ان “ينجح” السياسي الطامع لتمثيل مجموعته في اختبار “الجدارة السياسية” أولاً بقوة منطقه وحجته، وثانياً بسند من القاعدة التى تدعمه دون قهر وأن يترقى سلم العمل العام متدرجا من المستويات الدنيا للمستويات العليا. نقول ذلك مع اقرارنا بصعوبة إبعاد قضايا الاثارة عن العمل السياسى.
إبعاد التسييس الزائد وليس السياسية:
في واقع الأمر إن ابعاد التسييس الزائد وليس السياسة وتمكين الخبراء في مجالات معينة ولفترة محددة عمل ايجابي وهناك تجربة جدير بنا الإشارة اليها. أشير هنا الى دراسة جمعت عددا من المقالات لخبراء الادارة في السودان وهم مع حفظ الألقاب أحمد براهيم ابوسن، وأبكر محمد، ومختار الأصم، وميرغني حمور وقمت بتحريرها ونُشرت عام 2006 تحت عنوان “الحكم المحلي وقضايا الفيدرالية والسلام في السودان”. أشارت الدراسة إلى تجربة الحكم المحلي القائم على قانون مارشال وما حمله من سعى لإخراج الخدمات الاجتماعية الأساسية (الصحة والتعليم) خارج دائرة الصراع السياسي والاستقطاب الحاد الذي يميز مواقف القوى السياسية من بعضها البعض.
جاء في الدراسة أن شأن الدول النامية يختلف عن الدول المتقدمة. فالأولي مهددة بعدم الاستقرار السياسي الذي قد ينتقل عبر التنظيم الإداري لأجهزة الحكم المحلي.لقد عالج الفرد مارشال (1948) مسألة علاقة الحكم المحلي مع الحكومة القومية برفضه لفكرة جعل الحكم المحلي مرتبطاً بالحكومة القومية وموالياً. وابتدع نظاماً للحكم المحلي في السودان في قانون 1951 جعل فيه المجالس المحلية موازية للحكومة المركزية، وتذهب الدراسة إلى أن الحاجة في الدول النامية لأجهزة تقدم الخدمات الاجتماعية والتنموية باستمرار وباستقرار، أجهزة لا تتأثر بما يصيب الحكومة المركزية من عدم استقرار (تقرير مارشال 1948).
جاء في الفقرة التاسعة من تقرير مارشال ما يلي:
“لا يوجد خطر أكبر على الحكم المحلي من ربطه بالسياسة والحكومة المركزية. وكل خطوة تؤجل أو تؤخر أو تعطل من ربط الحكم المحلي بالسياسة هي خطوة محمودة ومرغوبة. الدول النامية غير مستقرة سياسياً ونظام الحكم المركزي فيها عرضة للاهتزاز، ولكن يجب أن يكون هناك جهاز يقدم الخدمات الاجتماعية والتنموية باستمرار لا يتأثر بالمتغيرات في الحكومة المركزية”.
ثم يقول إنه لا ينبغي الخلط بين القضايا السياسية القومية أو الوطنية وبين حاجة الناس للتعليم والصحة والمياه والبنيات الأساسية. وستعاني الدولة حتماً إذا ما صار تحديد موقع سوق أو مدرسة أو مستشفى يعتمد على أصوات الناخبين. هذه المسائل لا تحسم بالأصوات والسياسة ولكنها مجتمعية ضرورية للتنمية المستدامة التي يجب أن تكون غير مرتبطة بالسياسة.
ومن المبادئ التي نادى بها مارشال وطبقت في قانون 1951 أيضاً مبدأ “ديمقراطية” المجالس المحلية، وجعل أمرها في أيدي المواطنين المنتخبين الممثلين للمواطنين المقيمين بالمنطقة المحلية. وطالب بأن يكون من حق المجلس أن يتعلم من أخطائه، فلا يُوجه، بل تترك له الحرية ليختار ويقع في الخطأ ويتعلم. وطالب بأن تعطي الصلاحيات للمجالس المحلية بحسب المقدرة، كلما ازدادت مقدرة المجلس كلما أعطي سلطات وصلاحيات أكبر، هذا بالرغم من أن المجالس قام تكوينها على أساس قبلى!
بالطبع يمكن بكل سهولة أن ننصب المشانق لقانون المستعمر وكيف أنه شجع القبلية إلا أن النظرة المتوازنة ترى أن قانون مارشال 1951 و تجربة الحكم المحلى القائمة عليه لا تخلو من عيوب وقد تعرضت لانتقادات،ولكن ومن جهة اخرى لابد من الإشارة للاستقرار النسبي في الحكم المحلي ونجاحه في تقديم الخدمات دون عون من المركز. فلم يشهد أى مجلس حكم محلى عجزا فى ميزانيته الا عام 1959/1960 وتمكنت المجالس خلال الستينيات من تقديم خدماتها وإن كانت بصورة غير متوازنة لكل القطر.
وتبدل الحال اذ شهدت الستينيات استقطابا سياسيا حادا كان نظام مايو 1969 أحد إفرازاته، وزادت حدة الاستقطاب والصراع السياسي على القمة (قمة الهرم السياسي التي لا تهم المواطن على المستوى المحلي كثيراً) ولوحظ أنه كلما ارتفعت وتيرة الاستقطاب السياسيزاد الصرف على الامن وقل الصرف على الخدمات ومن هنا وضعت المذكرة أول الاهداف وقف الحرب وإحلال السلام.
وجاء فى تقرير منظمة العمل الدولية، (الاستخدام والإصلاح الاقتصادي نحو استراتيجية للسودان 1987م) انخفض الصرف على الخدمات الاجتماعية من 30.4% عام 61/1962م إلى 14.3% عام 72/1973م من الإنفاق الكلي الجاري، كما انخفض الصرف على التنمية الاقتصادية من 35% عام 55/1956م إلى 18% عام 72/1973م من الإنفاق الجاري ، وفي ذات الفترة زاد الصرف على الدفاع والأمن والإدارة العامة.واستمر معدل الصرف على الخدمات والتنمية في الانخفاض في فترة الثمانينات حيث إنخفض معدل الصرف على التنمية من 29.1% عام 74/1975م إلى 15.7% عام 84/1985م، كما قل نصيب الخدمات الاجتماعية في الإنفاق الجاري من 28.7% عام 74/1975م إلى 18.3% عام 84/1985م.
ولا أعتقد اننا نحتاج للإشارة إلى الواقع المرير في عهد الانقاذ، فقد صارت نسبة الصرف على الاجهزة السيادية والادارية والامنية تفوق ال70% من الميزانية. وتكفي الاشارة إلى بيان أودعته وزيرة الدولة للصحة المجلس الوطني (الصحف 24 مايو2016) أكدت فيه محدودية الإنفاق على الصحة من الناتج القومي مقارنة بالدول الشبيهة بالسودان اقتصاديا.وقال البيان “إن 75 في المائة من الإنفاق على الصحة يأتي من الدفع المباشر للمواطنين”. و تكفى الاشارة الىما يدور فى الصحف عن الترهل غير المبرر للجهاز الحكومى على حساب الخدمات للمواطن. وتساءل نائب برلمانياخيرا حول جدوى وجود برلمان دون أن يقوم باداء مهامه في التشريع ومراقبة ومحاسبة الجهاز التنفيذي!
ما تنادي به المذكرة من إيقاف الحرب وإحلال السلام يعنيأن الجزء الأكبر من حوالي 70% من الميزانية الموجه للحرب سيذهب إلى تمويل الخدمات الاجتماعية الضرورية التى تحدثت عنها النائبة البرلمانية. وكما جاء فإن خفض حدة الصراع السياسي الداخلي بين فئات الطبقة السياسية (الحاكمة والمعارضة) سيحول الموارد الموجهة للأجهزة الادارية والامنية الى النشاط التنموي.
والأهم أن تجفف عوامل التوسع المتزايد لأفراد الطبقة السياسية بإبدال تمويل شبكات الزبائنية للدعم السياسى (سوق السياسة) بالتفويض المباشر من المواطنين وتعزيزآليات المراقبة والمحاسبة لاداء السياسي حتى بعد تفويضه كما في تجارب بعض الدول الديمقراطية.
واحدة من النتائج التى يمكن استخلاصها من تجربة الحكم المحلي قبل نظام مايو هي عدم تسييس الخدمات الاجتماعية. إخراج القضايا التى تهم المواطن بشكل مباشر وهى الخدمات الاجتماعية الأساسية (الصحة، التعليم) من دائرة الصراع بين السياسيينيزيد الصرف على الخدمات ويقلل الصرف على الاجهزة الادارية والامنية المعنية بمصالح السياسيين (والطبقة السياسية) والتي تعمل على تأمين مواقعها في السلطة خاصة إذا اتسعت هذه الطبقة وتزايدعدد افرادها.
نظم قسم العلوم السياسية محاضرة في النصف الثاني من التسعينيات تحدث فيها الاستاذ الزائر بروفيسور بيتر وودورد عن الحكم والادارة في السودان وشارك فيها عدد من قادة الأحزاب منهم المرحوم الأستاذ التيجاني الطيب عن الحزب الشيوعي،وكانت مداخلته حول ترهل أجهزة الحكم بعد الاستقلال وجاء تعليقه مقتضبا وحادا بأنه يعتقد أن أجهزة الحكم كانت أقرب للمواطن في عهد الاستعمار البريطاني منها في عهد الاستقلال! وتابع المتحدثون تأكيد ذلك وانهم كلما سمعوا عن تقصير الظل الاداري انتابتهم الشكوك حول اجهزة ومؤسسات تبعد المواطن عن أجهزة اتخاذ القرار وتضاعف الانفاق الحكومي على حساب الخدمات.
في الستينيات كان للتقسيم الاداري 9 مديريات و86 محلية كل المجالس المحلية. وفى السبعينيات بلغت وحدات الحكم الشعبي 5610 مجلس محلى و19 مجلساتنفيذيا بما فى ذلك مديرية الخرطوم و8 أقاليم زائدا العاصمة القومية . فى الفترة من 1989 الى عام 1995 زاد عدد الولايات من 9أقاليم إلى 26 بزيادة نسبة 126%، وارتفع عدد المحافظات من 18 الى 98 بنسبة زيادة 400% ، وزاد عدد المحليات من 328 الى493 محلية بنسبة زيادة 50%. وفي عام 2000 بلغت الولايات 26 ولاية، و66 محافظة، و674 محلية.
ولا نشير هنا إلى مؤسسات الدولة على المستوى الأفقي: الرئاسة، البرلمان، الوزارت، المؤسسات العامة، الشركات الحكومية…ألخ؟ ولا نشير إلى عدد الأحزاب المسجلة؟ وعدد الهيئات السياسية (كالحركة الاسلامية) والمجالس الأهلية القبلية والروابط العشائرية والإقليمية والمناطقية التي تعمل بدون تسجيل في المجال العام؟
هذا التوسع الهائل واكبه توجيه الصرف بعيدا عن الخدمات الشىء الذى حدا بنائبة رئيس البرلمان لتطالب بميثاق شرف لإعادة مجانية التعليم. نقلت صحيفة اليوم التالي (27 مايو 2016) عن نائبة رئيس البرلمان مطالبتها بميثاق شرف لإعادة مجانية التعليمللبلاد، موضحة أن كثرة المدارس الخاصة أغرت المعلمين للعمل بها، وقالت في ورشة تمويل التعليم التي نظمها الائتلاف السوداني للتعليم للجميع، إن المدارس أصبحت عمارات فقط وإنها تفتقر للبيئة التعليمية، مشددة على حتمية التوقيع على ميثاق شرف لإعادة التعليم للمجاني وسيرته الأولى، داعية الى زيادة ميزانية للتعليم (ولم تقل كيف؟). من جانبه تحسر مبارك يحيى (رئيس الائتلاف السوداني للتعليم للجميع) على ما أسماه خروج السودان من مسار التمويل والنهوض بالتعليم، لافتا إلى أن السودان من أدنى ثلاث دول عربية لم تنجز في ملف التعليم شيئاً يذكر. المصدر: تقرير خضر مسعود – صحيفة اليوم التالي – 27 مايو 2016.
لا ندري إن كانت النائبة البرلمانية تقصد ميثاق شرف بين الأجنحة والمراكز القوى داخل النظام السياسي،أو بالأحرى الحزب الحاكم أو بين الحزب الحاكم والاحزاب المتحالفة وحركات التمرد، أم تعني الشراكة التى تنادي بها الحكومة الليبرالية: الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني؟ ولكننا نذهب إلى أن المقصود بالحديث عن ميثاق شرف هو التوافق بين القوى السياسية لإخراج التعليم والصحة عن دائرة الصراع والمزايدات السياسية. وإن صح ذلك بالنسبة للتعليم والصحة فهو أيضا يصح بالنسبة للسكة الحديد ومشروع الجزيرة وجامعة الخرطوم. وبصورة أكثر عمقاً وفيذات الاتجاه يذهب دكتور صديق امبدة “في توسيع مفهوم الخيانة: تجنيد الطلاب” (26 أبريل 2016)
الحاجة لإعادة تعريف السياسة:
أعتقد أن المذكرة تطرح مجموعة أفكار (بعضها يحتاج لتوضيح) ربما تصلح كمشروع وطنيلإصلاح المنظومة السياسية واِعادة تعريف السياسة تعريفاينأى بها عن التسييس. والأهم أن المذكرة تحمل توجها جديدا حول إصلاح العملية السياسية ومعالجة التضخم المرضي للطبقة السياسية التي تتعايش على استحواذ المال العام الذي هو أصلاً من إنتاج ونشاط المواطن او من موارده المطمورة تحت الارض (بترول، ذهب). وتعيد الرشد للعملية السياسية والتوافق على دستور يهيىء للقوات المسلحة والشرطية والأمنية القيام بمهامها حسب الدستور، وأن تتوافق الأحزاب والقوى السياسية والحركات المسلحة على ميثاق شرف ينبذ استخدام العنف والانقلاب على العملية السياسية.
الغرض من العمل على تقليل حدة ووتيرة التسييس فى المرحلة الراهنة هو لفت الانتباه إلى أن الوطن – الكيان الجامع – الذي تجري فيه عملية التسييس والسياسة تآكل ومهدد في وجوده وهو في حاجة ماسة إلى إعادة بناء وتأهيل. ولنقل بلغة أهل الرياضة ان الميدان الذي تجرى فية اللعبة السياسية مهدد فى وجوده، أو إن المسرح مهدد بالسقوط والمطلوب “فنيون وخبراء” لإعداد المسرح وترتيب الملعب لفترة مؤقتة. لكن الجديد هذه المرة عبر مقولة الإصلاح التي في المذكرة هو أن عضوية “النادي السياسي القديم” قد لا تجد ساحة الملعب خاليةً تماما لها كما كان الحال في الماضي، فهناك لاعبون جدد وربما يعاد تشكيل “النادي السياسي” ليشمل ممثلين يتحدثون باسم الهامش، مزارعي الريف، طلاب الجامعات، الشباب، المرأة، وفقراء المدن، سودان المهجر، وربما قوى جديدة فيأرضية ملعب مستوية (بقدر الامكان) وأنوار باهرة تكشف ما يجري فيأرض الملعب وتحكيم محايد.
ولن يسمح للفرق “القوية” المتنافسة بحشد البلطجية لإرهاب الحكام والتخريب! وأعتقد أن هذا ما عنته المذكرة بالإصلاح، أى إصلاح المنظومة السياسية من مؤسسات دولة وأحزاب سياسية وغيرها،إصلاح يذهب بعيدا لإزالة عوامل عسكرة وأمننة العمل السياسي القائم حاليا على منطق القوة. وهذا موضوع لا يسمح الحيز لتناوله بالتفصيل.
يرتبط موضوع إصلاح المنظومة السياسية بإعادة تعريف السياسة وايا كان تعريفنا لها فالنشاط السياسي سيظل قائماً و باقياً – ما ترميإليه محاولات إعادة تعريف السياسية هو الدفع بثقافة أو لنقل بتوافق (ميثاق أخلاقي) أن يكون التنافس بين أطراف العملية السياسية من أجل الوطن (رفعته، حمايته وتقدمه) وليس التنافس على الوطن (كغنيمة، رزق مباح). اعترف أن هذه مهمة صعبة في ظل الثقافة السائدة التي رعتهاالإنقاذ وسط الطبقة السياسية والتي رسخت بدورها جملة من القيم السلبية، وتفننت فيإيجاد أدوات التعامل مع السياسة كمصدر للثراء الشخصي والحراك الاجتماعي (مثلا ظاهرة اِنشقاقات الأحزاب والحركات). لكن يحدونا الأمل في الارتكاز على تراث غني في النزاهة والعفة تركة سياسيين وطنيين (الازهرى، ابوحسبو، وغيرهما) ومهما كان الرأى فى سياساتهم لا يمكن اتهامهم بالتعامل مع النشاط السياسي كمصدر للثراء الشخصي.
هذه نماذج نقيض ما نراه اليوم ويمكن الاستناد عليها في تحديد معايير النزاهة في السلوك السياسي. وهذه المقارنة للتنبيه أن لنا ذاكرة غنية تساعدنا في التحريض لاِعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في العمل السياسي. فالتسييس الزائد ينبع من تغليب المصلحة الخاصة (الحزبية، الطائفية، القبيلية، الجهوية) على المصلحة العامة. وروح مذكرة ال52 هي خفض وتيرة التسييس وليس إلغاء دور الطبقة السياسية.
أخيراً وليس آخراً فالنظم السياسية اياً كانت توجهاتها ليست أقوى من مجتمعاتها أو أوطانها، قد يعرقل النظام السياسي تطور المجتمع ويهدر موارده في الحروب والنزاعات، ولكن المجتمع وقواه الحية هي القادرة على دحر مثل هذا النظام. يبقى المجتمع – الوطن ويذهب نظامه خاصة ذاك الذي لا يعى حركة التاريخ أويقف ضدها.
بقلم : بروفيسورعطا البطحاني: سودان تربيون