خربشات (الجمعة)
الطيش ليس بليداً في كل الأحوال.. ومن يأتي في المؤخرة قد يكون حصاناً منافساً في المقدمة، لكن تعثرت خطاه في أول الطريق.. أو منتصف المسافة.. أو تعرّض لنكبة عارضة أو مرضاً يصعب شفاؤه.. فوضعته المنافسة في مكان ما مكانه!!
لن تفرح ولاية الخرطوم بفوزها المتوقع والمنتظر والطبيعي بالمرتبة الأولى في امتحانات الشهادة السودانية.. لأن الخرطوم هي قبلة المعلمين النجباء حيث المدارس النموذجية الحكومية والمدارس الخاصة التي تتنافس في الظفر بالطلاب النوابغ، وحيث العام الدراسي المستقر.. لا اضرابات.. ولا مشكلات أمنية ولا صواريخ تصوّب نحو المؤسسات التعليمية ولا عصابات يمكنها خطف صناديق الامتحانات.. والخرطوم في طريقها إلى أن تصبح واحدة من أكبر مدن العالم مساحة وأكثرها بؤساً وتخلفاً وأوساخاً.. الناس لا تنظر إلى وصيف البطل.. ولا تتذكر من لعب المباراة النهائية مع ألمانيا بطل كأس العالم 1974م.. وإذا كان في تراتيب الولايات الخرطوم هي الأولى، فإن ولاية جنوب كردفان هي (الطيش) لكنها (طيش ذكي) وإلا لما كانت حتى عهدٍ قريب من مناطق النبوغ الفطري.. مع دارفور التي تحتكر كليات الطب والهندسة قبل أن يجور بتلك المناطق الزمان ويتبدل حالها من حال إلى حال.. وتصبح كادقلي هي (طيش) الفصل!! لأنها مريضة منذ سنوات ولا شفاء من مرضها إلا بوصفة تحتكرها الخرطوم المركز. وترفض وتتمنع الخرطوم عن صرف روشتة الدواء لأنها لا تستطيع دفع ثمن الدواء المُر.
كيف لا تجلس جنوب كردفان في عربة (الفرملة) ومؤخرة الركب وقصة أستاذ اللغة الإنجليزية ورئيس شعبة اللغة بمدرسة الدبيبات الثانوية الأستاذ “المهدي عبد الله داؤود” تثير جدلاً في وسائل التواصل الاجتماعي.. الأستاذ “المهدي” فقد حماره الوحيد الذي يكسب به رزقه الحلال كعربجي في سوق الدبيبات بعد انقضاء اليوم الدراسي.. لا يتسول أستاذ “المهدي” في دار الحزب الحاكم.. ولا يطوف راكعاً وساجداً بمبنى المحلية في انتظار حوافز اللجان التي يشكلها المعتمد ولا يبيع “المهدي عبد الله” مبادئه التي نشأ عليها بثمن رغيف الخبز الحافي من مخبز “حسن الجقر”.. يمتطي “المهدي عبد الله” الكارو ويطوف على الدكاكين يحمل البضائع.. والناس.. الطالبات الطلاب النساء الجميلات يخرجن في المساءات الندية وإذا لم يجدن (الركشة) فإن كارو أستاذ “مهدي” هو تاكسي الغرام.. يجوب الحي الجنوبي يطوف على حي أمبدة الذي سميه على الأنصاري الوسيم “صالح أمبدة.. ويصل هبوب القبلة.. ثم حي سالم والحي الغربي.. لا يبالي بنظرة الناس إليه وهو في تجوال يتذكر أيامه في جامعة بغداد وإغداق حزب البعث العربي الاشتراكي المال على الطلاب العرب الوافدين من السودان والصومال ومورتانيا واليمن.. وكان “مهدي عبد الله داؤود” طالباً تخشاه حتى قيادات الحزب.. لأسئلته الجارحة لكبرياء الحزب العربوي وثقافته الواسعة وقراءته في الأدب الإنجليزي، كان “مهدي داؤود” مغرماً بشاعر العراق “بلند الحيدري” وبـ”محمد بنيس”.. و”فاطمة خالد” في الكويت.. ويسخر من “عبد الناصر” وهو يمسك بكتاب “فتحي غانم”(الرجل الذي فقد ظله).
(2)
عاد مع آلاف العائدين المفجوعين في سقوط “صدام حسين”.. وسقوط بغداد تحت أحذية الطغاة الأمريكان.. أطلق على “المهدي عبد الله داؤود” صفة “صدام” لأنه كان معجباً بأبي عدي” عروبياً من غير تنطع، اشتراكياً بلا جسارة ثورية.. في غمرة فجيعة “مهدي عبد الله داؤود” بسقوط حزب البعث.. اختار أن يبقى قريباً من الحركة الشعبية قطاع الشمال. لكنه اكتشف مبكراً التناقض بين الشعارات وواقع الحال، فرثى الحركة الشعبية قبل أن يرثي تجربته القصيرة.
في السياسة لأن “مهدي” عذب العبارة شفيف القلب.. ظل يكتب القصائد الشعرية في حسناوات المدينة (يدس) بعضها في أعماق أعماق صندوق أسراره.. ويعلن البعض الآخر لمن يثق في حفظه لشيء من (تراجيديا) الذات المنكوبة بالفقر، ولكنه فقر غير مذل.. ونفس راضية بالواقع تسمو على الصغائر.. و”صدام” دوماً يردد في خلواته وأشجانه أشعاراً لـ”صلاح أحمد إبراهيم”.. تغنى بها “محمد عثمان وردي” وأشعاراً أخرى لـ”صلاح عبد الصبور” وأغنيات يرددها هذا الإنسان المبدع وفي جلسات الأنس بمحلات “الهادي هارون” الشهير بود “الجبل” وهو أشهر الشخصيات التي ورثت مهنة (الكمسنجية) والتي أصبحت الآن ترحيلات.. ومدينتي الدبيبات تعتبر “حسن المصري” بشخصيته الغامضة والظروف السياسية التي استقر فيها بالدبيبات وزواجه من الدلنج وإنجابه لأجمل البنات وأحلى الأولاد وأنجبهم، فالأم من جبال النوبة والوالد من حي السيدة زينب.. ومع “حسن المصري” كان الكمسنجي (قنزب)، أما اليوم فإن “الهادي ود الجبل” الذي وفد من أقاصي شمال دارفور منطقة (دواء) التي سمى عليها بصات (دواء) الشهيرة، في مجلس ود الجبل العامر بالقصص والحكايات، يأتي أستاذ “المهدي عبد الله” لقراءة الصحف واستقبال القادمين للمدينة من الخرطوم ومدني ومدن دار صباح وفي آخر تجليات أستاذ المهدي” استمعت لقصيدة جمّل بها أستاذ اللغة الإنجليزية ذلك المساء ولكنه لم يدعِ كتابتها أو معرفة شاعرها.. لكنه قال:
ولمحت في عينيك لمعة من يحب
شيئاً كإحساس الغمامة قبل أن يقع المطر
شخصاً هناك تعشقين وجوده
وأنا جوارك كالغريب كأننا
من دون إحساس تقابلنا ونحن على سفر
سأظل أحمل في الدواخل لوعتي
رغم الذي أحسسته
سيظل حبك بين أقداري وقدر
أهواك ليس يهمني
إن ضج قلبك في سموات آخر
أنا فيك قد أمّنت حياتنا
كاللحن فيها رنة للحزن تمنحها الكمال حبيبتي
فلتعزفي في فوق أحزاني مع هذا الوتر
يقسم الأستاذ “عبد القادر كباشي” مدير مدرسة الدبيبات الغربية الثانوية إن وجود “المهدي صدام” في هذا الريف البعيد عن الأضواء خطأ في حد ذاته.
(3)
قبل حلول شهر رمضان بأسبوع كانت مدارس جنوب كردفان تقرع أبوابها إيذاناً ببداية العام الدراسي الجديد.. وقد فشلت كل محاولات (الخيرين) والوسطاء الرؤفين الرحيمين بالطلاب والمعلمين معاً.. تأجيل بداية العام الدراسي حتى انقضاء شهر رمضان، لكن الوزير رفض وتمسك برؤيته.. ربما إحساساً منه بأن التدهور المريع الذي يشهده قطاع التعليم في تلك الولاية المنكوبة يتطلب زيادة العام الدراسي خاصة وإن وزير التربية من أهل التخصص.. ولم تأتِ به لمنصبه الموازنات والمحاصصات القبلية.. ولكن حصد حصاداً لا يشرفه.. كيف لا يحصد هذا المقام والطلاب مهديون في أنفسهم.. تتساقط الدانات على رؤوسهم في كادقلي.. وأستاذ “مهدي” في الدبيبات التي هي الأخرى مهددة من قبل التمرد بجهة الفرشاية يفقد (حماره) قبل بداية العام الدراسي وتصيبه الحسرة والندم لفراق من أحبه قلبه.. أستاذ “مهدي” لا يضرب بالعصا والسوط لأن من لا يضرب حمار الكارو لا يمكن أن تمتد يده لحماره.. كانت فجيعة حمار الأستاذ “المهدي عبد الله داؤود” قد حركت فيه شيطان الشعر وكتب رثاء حماره الأغبش يقول:
أفتقدك صبحي بدري
وزاد حزني في العصاري يا حماري
صوت نهيقك نغمة خالدة في دمايا ووريدي
وحرقة في جواري تسري قالوا عنك اتسرقت
أنت بس غبت ومرقت
ما أظنك ابتعدت بكرة ترجع لي تاني
كم بحبك والله عالم قدر ما جيتو بدري
حاول أرجع للزبائن في انتظارك
القصيدة طويلة تضج بالألم والحزن على فقدان عزيز لقلب ذلك الشاعر المرهف والإنسان الذي يعيش الدنيا بطريقته الخاصة، راجت قصيدة الحمار المسروق في الأسافير وتبرعت الزميلة “فاطمة الصادق” بثمن حمار أغبش للأستاذ “المهدي”.. وكذلك تبرع بثمن حمار آخر احتياطي الدكتور “عبد الله إبراهيم” وكيل أول التخطيط بالمالية تضامناً مع هذا الإنسان الذي توالت عليه المصائب بعد فقدان حماره حصلت ولايته على المرتبة الطيش رغم تفوق ابنة أخيه “فضل حامد داؤود” وإحرازها (90%) وكل عام وأنتم بخير ورمضان كريم.