جمل العصارة وجمل الشيل
إن أي متأمل في حال البلاد منذ نيلها الاستقلال وإلى اليوم، لن يجدها إلا على حالها السيء وبؤسها المقيم، إن لم يكن قد تدحرج إلى الأسوأ، وكأن قدر أهلها المسطور أن يعيشوا تاريخاً دائرياً حلزونياً لا مخرج منه، وهل يحتاج أحدكم إلى دليل يرشده إلى هذه الدائرة المفرغة التي ظلت البلاد تدور فيها كما يدور جمل العصّارة وهو مغمض العينين عكس عقارب الساعة، ويتأرجح بينها كما يتأرجح بندول الساعة مع الفارق، من حيث إن دوران الجمل وما يصاحبه من (عصر) له منتوج مفيد، وتأرجح البندول يحرّك الزمن إلى الأمام، بينما دوران بلادنا على نفسها لا يورثها غير إعادة إنتاج مشاكلها وأزماتها، وتأرجحها بين همومها وقضاياها يجذبها إلى الخلف ويدحرجها إلى الأسفل على عكس حركة التاريخ والحراك الإيجابي للمجتمعات، ولا أدل على ذلك من بعض أزماتنا المتخلفة التي ما نزال نرزح تحتها رغم أنها أصبحت عند كثير من الأمم والشعوب القريبة منا والشبيهة بنا من ذكريات الماضي الأليمة، فمشاكلنا ظلت هي هي، وأزماتنا هي هي، وخلافاتنا هي هي، وخيباتنا هي هي، منذ بداية تأسيس الدولة الوطنية وإلى يوم الناس هذا، وعلى ذلك قس تعاطينا المعطوب والمعيب والناقص والمبتور مع هذه الأزمات والقضايا والمشاكل، نفس الحلقات المفرغة واللا نهائية، مؤتمر ينتهي إلى مؤتمر، ومبادرة تسلمنا إلى مبادرة، ووسيط يخلف وسيطاً، ثم (سواطة) من بعد ذلك تعيد الحكاية كلها إلى المربع الأول، لتبدأ الدائرة في الدوران من جديد، والعالم من حولنا يتقدم ويتطور، بينما نظل نحن محلك سر لا نملك غير اللسان الطويل والجعجعة بلا طحين، فصار العالم لا يعرفنا ولا يتعرف علينا إلا عن طريق مشاكلنا، ورغم ذلك لا يتورع البعض من إلقاء تبعاتنا التي جنتها أيدينا عليه وتعليقها على مشاجب التآمر المحفوظة والمكرورة، بينما العيب الأساسي فينا نحن، وحتى لو صحّت حجج التآمر فنحن أول المتآمرين بما نخلقه من ثغرات وثقوب يتسلل من بينها المتآمرون إن وجدوا، ومن المفارقات التي لا تدري هل تضحك معها أم تبكي هو أننا في النهاية نسلم أمرنا إلى ذات من رميناهم بالتآمر، فتتعاقب علينا بعثاتهم ويترى مبعوثوهم ووسطاؤهم ويظل أمرنا يدور بين عواصمهم التي تتبادل التداول حوله، وهكذا دواليك، تستمر (الدايلما) على طريقة الشاعر الحلمنتيشي (أعاين ليك تغمضي انتي، تعايني لي أغمض أنا، ونعيد الكرة من تاني)..
أليس في هذه البلاد (جمال شيل) رجال راشدين وشيوخ حكماء وشباب طموح ونساء ماجدات لينتشلوها من هذه الدائرة المفرغة ويضعوها على الطريق الصحيح، إننا لا نسأل بل نستنكر أن تظل بلادنا هذه بكل ما تملك من قدرات ومقدرات وموارد مخبوءة وظاهرة تدور كما يدور جمل العصارة وهو مغمض العينين، بينما في مقدورها إن خلصت النيّات وصدقت العزائم وتوارت الأنانية وسقطت الشمولية وتفشى العدل وعدلت القسمة وتساوى الناس على أساس المواطنة، أن تنطلق وتحلّق عالياً كالنسر فوق القمة الشماء.