“تحري انقشاع الظمأ والظلام” الخرطوم الراهنة تبدو “كالعيس في البيداء.. حيث تجري الأنهار تحتها.. وفوقها شبكة من الأسلاك المشحونة بالكهرباء.. لكنها ترزح في ظلمة ويتشقق حلقها عطشًا
في اللحظة التي تلتئم فيها مجمع الفقه الإسلامي رفقة علماء الفلك، لتحري رؤية شهر رمضان، فإن أكثر الناس لن يعيروا اجتماعهم بالاً، فثبوت شهر رمضان بالنسبة لهم أمر حتمي، هو قادم لا محالة، ولكن ما يؤرق مضاجع غالبية المواطنيين ويقلقهم، حتى الآن، هو الأزمة المتكررة والقطوعات المستمرة للمياه والكهرباء في العاصمة والولايات، ما يجعل كافة المواطنيين يدخلون في مهمة تحرٍ أخرى لرؤية المياه والكهرباء، في نهارات رمضان وأمسياته، فالأزمة التي تعيشها خرطوم النيلين ومناطق متفرقة بصورة دائمة، تولدت خلال الأشهر الماضية، جأر منها المواطنون بالشكوى والاحتجاجات في مرات عديدة، وظلت تبارح مكانها.
الازمة تتفجر من جديد.. تناكر المياه والبراميل وعربات (الكارو) تجوب أحياء الخرطوم، وتنتشر الأواني على رؤوس النساء والأطفال محملة بالماء.. مولدات و(موترورات) المياه.. مزيدًا من جنيهات الكهرباء فقط وتفشل في جذب المياه للحنفيات.. مخاوف وقلق تسيطر على المواطنين من استمرار الأزمة في المياه والكهرباء خلال رمضان وبحثهم بالساعات للحصول على الماء، وها هو الشهر يأتي وذات الأزمة تتمدد، والشكاوى تتكرر من انعدام المياه وقطوعات الكهرباء، مع ارتفاع في درجات الحرارة، لا يجد حيالها المواطنون بدائل، أزمة تمظهرت في عجز وزارة الموارد المائية والكهرباء، في توفير ما يحتاجه ملايين المستفيدين من المشتركين لدى وزارة معتز موسى، ممن يدفعون أموالهم مقدماً للحصول على الخدمة المستقرة، إذ إن مجموع كل قوى التوليد المركبة حالياً في السودان المائى منها والحرارى لا تتعدى 2500 ميغاواط من الناحيّة الاسمية، لكنها أقل من ذلك بكثير من الناحيّة التشغيليّة، ولا تتعدى في أحسن حالاتها 1500 ميغاواط تقريباً، يحسب الإحصائيات، وربّما أقل بسبب التوقف المتكرر للمحطات الحرارية، نتيجة نقص الوقود أو الصيّانة وانعدام قطع الغيار بجانب انخفاض مخزون المياه خلف السدود خاصة في شهور الصيف ذات الاستهلاك العالى.
إن الحاجة الفعليّة لإمداد كهربائي يغطي كل البلاد تتجاوز ما هو متاح اليوم بتقدير عشرة أضعاف على الأقل وبناءً على هذا فإنّ البلاد قد تكون في حاجة لقوى توليد مركبة تتجاوز 15000 ميغاواط مقارنة بما هو موجود اليوم وسترتفع هذه القوى إلى 20000 ميغاواط عام 2020 ثم إلى 25000 ميغاواط عام 2025 وهكذا.
كل هذا في حضرة مجموعة من السدود تباهي بها الحكومة، تتمدد على طول البلاد وعرضها أبرزها الروصيرص، مروي، سنار، جبل أولياء، وغيرها . الحقيقة الصادمة في الإمداد الكهربائي في السودان تتمثل في أنّ البلاد اليوم ومن واقع وجود مساحات شاسعة وأقاليم بأكملها لا تتمتع بخدمات الكهرباء وتعيش في ظلام دامس في غرب ووسط وشرق البلاد، وخروج القطاعات الإنتاجيّة كالصناعة والزراعة وجزء كبير من الخدمات حتى في العاصمة المثلثة عن تلقي الكهرباء بصورة منتظمة.
صورة الأزمة والمعاناة، تبدو هي نفسها، بذات السوء بل أنكأ، بين يدي أسطوانة الفشل المتكررة من هيئة مياه ولاية الخرطوم في توفير المياه لسكان ولاية الخرطوم خلال الفترة الماضية، ومع قدوم رمضان، تتفجر ذات المشكلة، خراطيم المياه خاوية، وما من جهة توضح اسباب العجز في توفير المياه، أزمة اكتفى حيالها والي الولاية عبد الرحيم محمد حسين وطاقم حكومته أمس بالاعتراف بها وبذل الوعود بإيجاد حلول لها، أزمة لا يرى لها المواطن مبرراً، وهو الذي أصبح يدفع زيادة في تعرفة المياه بنسبة مائة بالمائة، اذ ارتفعت فاتورة المياه من 16 جنيهاً الى 33 جنيهاً للدرجة الثالثة، وما يقارب 85 جنيهاً لسكان الدرجة الأولى، و58 جنيها لسكان الدرجة الثانية، ظل المواطن يدفع بها لهيئة مياه ولاية الخرطوم شهرباً خلال الفترة الماضية، نظير مياه معدومة، وصنابير تبخل على مد الناس بماء الحياة، في أحياء كثيرة وواسعة من الولاية، زيادات علقت الجهات الحكومية ضرورة فرضها، على مشجب التكلفة العالية للمياه وأنها تساوي ثلاثة أضعاف التكلفة الحالية، وإن “المسألة باتت لا تحتمل”، فالحكومة لا يمكنها أن تحتمل، ولكن المواطن عليه أن يتحمل انعدام المياه، وينتظر بالساعات الطوال ما ينسرب من الحنفيات ليلاً، ليملأ ما يكفي حاجته، ولا يسخط، فالدراسات الرسمية الحكومية، أثبتت ان استخدام الشخص الواحد في أحد الأحياء الراقية في الخرطوم من الماء يبلغ 700 لتر، بينما استهلاك الأسرة العادية لا يتجاوز 150 لتراً، كما إن حاجة الولاية تتطلب 800 ألف متر مكعب يومياً بتكلفة 340 مليون جنيه.
وفي كثير محاولاتها لإيجاد المبررات قالت الحكومة إنها إذا أرادت توفير خدمة المياه مجاناً للمواطنين، فعليها أن توفر مبلغ 51 مليار جنيه شهرياً لهيئة المياه التي تتحصل بالكاد من فاتورة المياه مبلغ 17 ملياراً. ورغم استجابة المواطنين لزيادة التعرفة في أسعار المياه، طيلة الأشهر الماضية منذ زيادة التعرفة في يوليو من العام الماضي، بعد تحجج السلطات الحكومية في الولاية بأن الحل في الزيادة، إلا أن الأزمة ذاتها تطل برأسها منذ بداية فصل الصيف وحتى الآن.
ومع قدوم رمضان يبدو أن المواطن سيكون على موعد مع المعاناة وتحري لصدقية الوعود الحكومية في صوم رمضان بلا قطوعات في المياه والكهرباء، وإنفاذ توجيهات رئيس الجمهورية وإعلانه “إن شاء الله شهر رمضان سيمر دون قطوعات مبرمجة، إلا إذا حدث عطل لا قدر الله”.
الخرطوم – سلمى معروف
صحيفة اليوم التالي