حصة الحمود الصباح : “فليتنافس المتنافسون”
نستقبل خلال أيام شهر رمضان المعظم، ونبارك ونهنئ أنفسنا بقدوم هذا الضيف السنوي المبارك، وهو منحة إلهية رحمة بالعباد ومغفرة لذنوبهم وعتقا لرقابهم من النار.. هو شهر نلتمس فيه نفحات إيمانية ندعو الله فيها بخشوع أن يهدينا سبل الخير والأمن والأمان.. هو شهر مفروض علينا صومه حتى نشعر بالفقراء والمساكين لنمد لهم أيادي خصبة تنبت فيها الصدقات لنتراحم ونعود إلى فطرتنا السوية وإنسانيتنا، التي نكاد نفقدها على مدار العام تحت، وطأة الحياة المادية القاسية والانشغال بمصالحنا الخاصة الضيقة على أنفسنا.. هو فرصة لنوسع هذه الدائرة التراحمية مع الأقارب والأصدقاء والمحتاجين لنستشعر هذه المشاعر الجميلة ونساهم في تأصيل معاني الإنسانية.
حكمة الصيام وفلسفته إذا تدبرناهما بصدق سنكتشف فيهما عالما مفقودا من المعاني الجليلة والروحانيات الفائقة.. ضعف الجسد في لحظات الجوع والعطش يدل على أن الروحانية مغطاة بستار من الشهوات نتيجة طغيان الحياة المادية على الجوهر الإنساني، فنجد أن الصيام يزيح عنا هذا الطغيان المادي لنكتشف رقة النفس البشرية كالمريض الذي تشتد مناجاته لله في لحظات مرضه بغية الشفاء العاجل.
شهر رمضان هو شهر التهذيب وتقليم أظفار الكبر والغرور.. هو شهر إعادة ترميم النفس وما أصابها من تشوه طوال العام بفعل المعاصي والتشاحن والغل والأنانية والتبذير والاستكانة إلى جميل فضل الله بلا ذكر أو شكر.. شهر رمضان ثورة على النفس وجرس تنبيه للبشرية جمعاء، وليس فقط للمسلمين، على ضرورة التلاحم والتراحم بين الشعوب.
في إحدى زياراتي لألمانيا، لاحظت هناك غير المسلمين وهم يقدمون التمور وسجاجيد الصلاة للمسلمين، وهي رسالة للمتطرفين وتذكير لهم بأن الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة تؤتي ثمارها.
إن توقفنا أمام هذا السلوك الإنساني الرائع من إخواننا في الإنسانية، أو على أقل تقدير نترك الناس وحريتهم ونحترم عقائدهم، لأنهم فعلوا ذلك استجابة لنداء الفطرة الإنسانية بلا واعظ ديني أو قرار سياسي، لأن الإنسانية هي المقصد والهدف الأعظم.
كما ينبغي علينا ألا نحوِّل الشهر الكريم إلى حالة استنفار في الجمعيات والأسواق لشراء مستلزمات الطعام والشراب وكل ما تشتهيه الأنفس، لأن ذلك ينافي الحكمة من الصيام في هذا الشهر، فهو فرصة للانقطاع من أجل العبادة وتصفية الذهن والنفس من شوائب المعاصي والشهوات، وعدم تلبية دعوات الإفطار خارج المنزل وتحويل الشهر الفضيل إلى حفلات تبذير، وذلك منهي عنه في الأيام العادية، فكيف بشهر الصيام والزهد والترفع عن الشهوات؟
وهذا يدفعني دائما إلى النصيحة، وخصوصا للشباب، الذين تحول شهر رمضان بالنسبة إليهم إلى كسل ونوم وسهر للتدخين ومتابعة للمسلسلات والبرامج وتأفف وتربص بأيام الشهر الكريم لتنقضى، ومع الأسف هذه العادات السيئة التي تظهر في الشهر الفضيل تجعلنا ممسكين وليس صائمين، لأن الأثر المعنوي للصيام الصحيح يستمر طوال الشهر في نهاره وليله، ولذلك أنصحهم أن يتجردوا لطاعة الله وأن يغتنموا الفرصة لتصحيح هذه الأوضاع، وعلى الآباء أن يربوا أبناءهم على احترام الشهر الفضيل، وأن عبادة الله وتعظيم شعائره وحرماته من تقوى القلوب، وأن الطاعة فيه لها ثمرة وبركة في كل الخطوات التي نخطوها.
شهر رمضان رسالة رحمة من الرحمن لنا أن نتراحم، فالراحمون يرحمهم الله ويغفر لهم.. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، اعملوا صالحا، أفشوا السلام، أطعموا الطعام، حافظوا على الصلوات وأقيموها في نفوسكم، تبسموا للناس، احفظوا شيئاً من القرآن وتدبروا معانيه، واجعلوا ذلك الشهر الفضيل بداية مع الله، “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”، تصدقوا، اذكروا الله كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، صلّوا على النبي عليه الصلاة والسلام، علّقوا قلوبكم بالآخرة فالدنيا إلى زوال ولن تخلدوا فيها، فعليكم بالقرآن حتي تنعموا برضا الرحمن.