محمد لطيف : تقليص الوزارات.. هل يستبق المخرجات (*)
تقليص الوزارات.. هل يستبق المخرجات؟! 2
انتهينا أمس إلى الأخذ بفرضية أن الدولة جادة في مراجعة الترهل في الجهاز التنفيذي.. ولكن نأخذ في الاعتبار كذلك حقيقة هشاشة موقف الدولة.. أو إن شئت الدقة قل الحزب الحاكم.. في التراجع سريعا أمام أية ضغوط.. وقبل أن نمضي في هذا الاتجاه دعونا نكمل ما انتهينا إليه بالأمس من أن الأمر ليس في حاجة إلى دراسات ولجان جديدة.. لماذا..؟ لأنه قد سبق للجنة عالية التشكيل بمن ضمت من خبراء في الخدمة المدنية أن عكفت على مراجعة قمة الجهاز التنفيذي.. أي مجلس الوزراء.. وانتهت إلى مجموعة من التوصيات أبرزها.. أن يضم مجلس الوزراء ستة عشر وزيرا فقط.. وألا يتجاوز عدد وزراء الدولة ثلاثة فقط.. ينحصرون في الوزارات ذات المهام المتشعبة.. وركزت اللجنة على أنه وفي ظل الحكم الاتحادي وقيام الحكومات الولائية.. فالوزارات الاتحادية قد أصبحت في معظمها إشرافية الدور.. باستثناء الوزارات السيادية.. كما أوصت اللجنة بمراجعة وتقليص الكثير من المؤسسات والهيئات.. أما أهم التوصيات.. على الإطلاق.. فقد كانت.. إعادة الاعتبار لمنصب الوكيل.. واعتبار الوكيل في كل وزارة هو المسؤول التنفيذي الأعلى مع التركيز على أهمية تدرج الوكيل داخل وزارته لضمان توفر الخبرة العملية والإلمام والإحاطة بشئون الوزارة.. وحتى المعرفة اللصيقة بالعاملين.. كذلك مراعاة طول مدة خدمة الوكيل.. لضمان استقرار دولاب العمل.. واستمرار العمل في المشاريع التي تقوم بها الوزارة.. دون أن تتأثر بأي تقلبات سياسية.. أو تغييرات في أشخاص الوزراء.. باعتبار الوزير عرضا سياسيا.. يمكن أن يزول في أية لحظة..!
إذن، هذه التوصيات وغيرها كانت جاهزة للتطبيق نهاية عقد التسعين.. حين ضربت المفاصلة الشهيرة النظام القائم وحزبه الحاكم.. فكان لا بد من طي تلك التوصيات.. حيث أن المرحلة كانت في حاجة للاستقطاب.. ولعل أقصر طرق الاستقطاب الاستوزار..؟
لاحظتم ربطنا لمسألة تقليص الجهاز الحكومي بمخرجات الحوار الوطني.. بل وأنها تتعارض معها.. ولكن الأمانة تقتضي أن نقول وبوضوح شديد.. إن مخرجات الحوار الوطني إن لم تحمل في صدارتها توصية بتقليص الجهاز التنفيذي, وتحديدا المقاعد الوزارية.. وخفض الإنفاق الحكومي.. فهذا يعني أن هذه المخرجات لم تلامس الواقع.. ولم تستصحب واحدة من أهم مطلوبات حل أزمة الحكم في السودان.. بمعنى أن هؤلاء المشاركين في الحوار مطلوب منهم أن يرسوا قاعدة جديدة تخرج بالسودان من هذه الدائرة الجهنمية المغلقة.. فليست الانقلابات وحدها وفشل الأنظمة الديمقراطية هي الدائرة الشريرة.. بل إن توزيع المناصب على أساس المحاصصة.. بكل أنواعها يظل واحدا من أكبر مظاهر الأزمة.. ومداخل الترهل في الحكومة.. ولكن.. والحق يقال.. فقبل أن تصدر مخرجات الحوار.. وقبل أن نطالب المتحاورين بالزهد في المناصب.. فالحزب الحاكم هو الأولى بتصحيح مفهومه الذي يدير به البلاد.. ويوزع به كيكة السلطة.. وينقض غزله بيده.. فحتى مؤسسة الرئاسة.. وفي ذات الوقت الذي تبشر فيه بتقليص الجهاز التنفيذي بخفض عدد الوزراء.. تفاجئ الجميع بتعيين وزير جديد دون أي مبرر ودون أي حجة.. فالمعلومات الراشحة قبل فترة من تلقاء القصر أكدت أنه في إطار إعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة سيتم تعيين مدير عام للشؤون السياسية والإعلام.. ومعروفة درجة المدير العام ومخصصاته واختصاصاته.. ولكن فجأة أعلن عن رفع المنصب لدرجة وزير دولة.. أي أن المحاصصة يمكن أن تكون من أجل فرد واحد فقط.. لا حزب ولا قبيلة ولا يحزنون.. الإصلاح ليس نزهة يا سادة..!
…
تقليص الوزارات.. هل يستبق المخرجات؟ 3
حتى للأكثر تفاؤلا.. يغشاهم اليأس من أن مخرجات الحوار الوطني يمكن أن تضع حدا لمشاكل السودان.. باعتبار أن تطبيق المخرجات سيصحبه ما يسمى بتوسيع قاعدة المشاركة.. باعتبار أن المحاورين.. أصحاب المخرجات.. يتطلعون للمشاركة في السلطة لتطبيق مخرجاتهم تلك.. وإن كنا قد ربطنا بين المخرجات وبين خطة تقليص الجهاز الحكومي بحسبانهما طرفي نقيض.. يستحيل أن يلتقيا.. فثمة خيار يجعل من الممكن جدا الجمع بينهما.. بمعنى آخر.. إنه يمكن الجمع بين توسيع قاعدة المشاركة.. باعتباره مطلبا قائما ودائما للساسة وأحزابهم على حد سواء.. وبين خفض الإنفاق الحكومي باعتباره مطلبا شعبيا قائما وملحا دائما.. أي أنه بالإمكان الجمع بين طموحات الساسة وأحلام الشعب.. باعتبارهما أمرين لا يلتقيان البتة.. غير أننا وقبل أن نكشف عن هذا الخيار ومصدره.. فلا بد من تحرير مفهوم جديد لعبارة توسيع قاعدة المشاركة هذه.. وسنفترض أن كل الذين يتحدثون عن توسيع قاعدة المشاركة.. وهم يتمددون ويغطون هذه القاعدة فعليا.. والذين يطالبون بتوسيع هذه القاعدة.. إنما يعنون بالمشاركة حشد الجهود والطاقات لمواجهة قضايا الوطن.. مع إعلاء الهم العام.. لا الكسب الشخصي والبحث عن المناصب أو التطلع لتحقيق عائدات شخصية هنا أو هناك..!
بمعنى آخر.. ما هي الصيغة المثلى لتحقيق أكبر توسيع لقاعدة المشاركة في الحكم لكل الكيانات والتيارات والأحزاب السياسية.. دون أن يكون لهذه التوسعة مردود سالب على الاقتصاد.. أو تكون عبئا إضافيا على الميزانية العامة.. بالطبع فإن سيادة نظام ديمقراطي حقيقي.. وإطلاق الحريات الأساسية من تعبير وتجمع وتنظيم وتنقل لمما يختصر الطريق لحسم شكل الحكم ومن يشارك فيه.. باعتبار أن كل ما ذكرنا لا يعدو أن يكون الطريق الذي يقود الجميع إلى الاحتكام للشعب عبر صناديق الاقتراع في انتخابات حرة نزيهة.. لكن.. يجب الاعتراف أننا إنما نتحدث عن ظرف استثنائي.. يفرز وضعا استثنائيا.. فيه بين هؤلاء وأولئك ما صنع الحداد.. ولكنا نجتهد في الوصول إلى صيغة تحقق التلاقي في حده الأدنى.. وأن الجمع بين مخرجات الحوار الوطني وبين خفض الإنفاق الحكومي ممكن أيضا..!
على أيام مفاوضات السلام بين الحكومة والحركة الشعبية.. وحين كان الجميع في نيفاشا يبحثون في وسائل تقريب الشقة بين الأطراف.. وفيما كان المنبر التفاوضي الرسمي يبحث في ملف السلطة.. كانت ورشة محدودة العضوية تبحث في ذات الملف.. أو ذات المحور.. ولأن الآمال يومها كانت عريضة تلك المعقودة على مفاوضات السلام الشامل.. من أن تفرز اتفاقا شاملا يستوعب كل مكونات المشهد السوداني بما سيخلص إليها من حلول لكل مشكلات السودان.. فقد كان أكثر ما يشغل أولئك الخبراء.. محدودي العدد واسعي الخبرة.. أن الطموحات السياسية والتطلعات المشروعة وغير المشروعة في مرحلة ما بعد السلام.. ستفضي إلى شكل من أشكال الإنفجار على مستوى المناصب الدستورية في البلاد.. مما يستدعي الوصول إلى صيغة تحقق مشاركة الجميع في إدارة دولتهم.. دون أن تخلق في ذات الوقت عبئا على كاهل موارد الدولة الشحيحة أصلا.. وبما لا يكون خصما على التنمية التي تنتظرها كل أرجاء البلاد.. خاصة تلك المتأثرة بالحرب.. فتبلور اقتراح.. نلخصه غدا.
…
تقليص الوزارات.. هل يستبق المخرجات 4
شاغل عارض قطع علينا تسلسل هذا التحليل أمس.. فعذرا للقارئ ولإدارة التحرير.. فكلاهما يتحملنا في صمت.. ربطنا ابتداء بين ما أعلن عن توجه لتقليص الجهاز التنفيذي.. وبين ما ينتظره الناس من مخرجات الحوار الوطني.. ابتدأنا القول بأن الأمرين لا يلتقيان.. وتساءلنا إن كان التوجه نحو التقليص التفافا على مخرجات الحوار.. ثم عدنا وقلنا إن نأت مخرجات الحوار عن التوصية بخفض الإنفاق الحكومي بما في ذلك تقليص الجهاز التنفيذي فهي توصيات ستكون أبعد ما تكون عن نفس المواطن.. وعن معاناته.. وعند هذه النقطة قلنا إذن بالإمكان.. ثمة صلة بين التوجيه الرئاسي بتقليص الجهاز الحكومي وبين مخرجات الحوار الوطني.. ثم أشفقنا على الحكومة من الضغوط السياسية والقبلية والجهوية.. وأخرى.. تنكب الحكومة جادة طريق خفض الإنفاق.. فتفتح باب الاستوزار.. وتوزع المناصب.. بحسابات يصعب تصورها أحيانا.. ثم استعرضنا نماذج لمحاولات التقليص الحكومي.. لجنة بروفيسور علي شمو نموذجا.. وكيف أن توصياتها ذهبت إلى الأضابير.. لأن المرحلة كانت مرحلة استقطاب..!
ثم قلنا إن أقصر الطرق لتوسيع قاعدة المشاركة وفي نفس الوقت خفض الإنفاق الحكومي أو تقليص الجهاز التنفيذي.. هو إطلاق الحريات العامة حتى تبلغ.. تطورا.. حق الترشح والانتخاب.. فحينها يكون القرار عند الشعب.. وهو الذي يحدد كل شيء.. ثم استدركنا أن الوقت لا يشبه هذا.. عليه فنحن في حاجة لاستنباط صيغة تحقق توسيع قاعدة المشاركة.. دون أن يترهل الجهاز التنفيذي.. فتصبح المشاركة الموسعة هذه.. عبئا على كاهل المواطن.. وخصما على الخزانة العامة.. فتذكرنا اقتراحا كانت قد تداولته ورشة محدودة.. انعقدت على هامش انعقاد منبر التفاوض في نيفاشا الذي كان يعكف يومها على محور السلطة بحثا وتمحيصا.. وانتهينا عند انعقاد تلك الورشة.. ولعل ذلك في العام 2003.. كان المقترح الذي أثار ذلك الجدل.. هو أن تكون شراكة الأحزاب السياسية في الجهاز التنفيذي.. عبر مجالس الوزراء.. وللتعبير الدقيق.. عبر مجلس الوزير.. كان في ذلك الزمان وحتى اليوم ربما.. يشكل كل وزير مجلسا يفترض أنه يساعده في تسيير شئون وزارته.. وهو مجلس استشاري.. ليس لديه ما يلزم به الوزير.. والرؤية الشخصية للوزير.. ولا نقول المزاج.. تلعب دورا أساسيا في تشكيل المجلس.. وغني عن القول أن تلك المجالس تنعقد.. كذلك.. وفقا لرغبة الوزير وظروفه.. الاقتراح الذي بصدده اليوم أخذ بتلك المجالس كأساس ووعاء لتوسيع قاعدة المشاركة.. مستصحبا الشروط التالية.. أن تكون 25 % من عضوية المجلس من الخبراء والأكاديميين والعلماء غير ذوي الصبغة السياسية.. سمهم تكنقراط.. وأن يكونوا من ذوي التخصص اللصيق بالوزارة.. و75 % من ممثلي الأحزاب السياسية ويفضل أن يكون كل ممثل لكل حزب في كل مجلس من ذوي الإلمام والدراية باختصاص الوزارة التي يمثل حزبه في مجلسها.. إن لم يكن من ذوي الاختصاص.. كما نص المقترح أن يرفع مجلس الوزير ليكون جهازا دستوريا.. له لائحة حاكمة.. وقواعد ضابطة.. كما نص على أن العمل في مجلس الوزير جهد طوعي أقصى ما يحصل عليه عضو المجلس نثرية حضور الاجتماعات.
هذا المقترح كان مطروحا للجادين على المشاركة في الشأن العام والمساهمة في الإصلاح وتحمل عبء إنقاذ الوطن.. لا الباحثين عن مناصب.. أو حصص في كعكة السلطة.. لذا كان طبيعيا أن يموت في حينه.. كما أتوقع أن يهال عليه التراب الآن..!