الخَـــــــوْف.. والحُــــزن..
داخل نفس كل إنسان طاقتان هَادرتان سَلبيتان.. طاقة الخوف.. وطاقة الحزن..
الخوف من المستقبل.. من المجهول الآتي.. الحزن على ما فات.. ماضٍ تسرّب بين الأصابع..
يقول الشاعر المتنبي:
وما الخوف إلا ما تخوّفه الفتى.. وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
ويقول الله تعالى في سورة فصلت:
(إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
الخوف من المُستقبل والحزن على الماضي طاقة سالبة مُعطّلة لكثير من إرادة العمل والحياة فيحتاج الإنسان إلى دعم روحي يُكافئ أو يتغلب على مقدار الإحباط أو الاكتئاب الناتج من الخوف أو الحزن.
(تتنزل عليهم الملائكة).. في حال الخوف أو الحزن تتدفق القوة الروحية الداعمة من عند الله سبحانه وتعالى لتشد من عضد المؤمن.. لكن بشرط!!
الشرط يأتي في مُقدمة الآية (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا).. مكون من بندين اثنين لا ثالث لهما:
البند الأول: (قالوا ربنا الله..)؛ وهو ليس مجرد نطق بالشفتين كأي تعويذة.. وليس مجرد إقرار بربوية الله سبحانه وتعالى.. فهو الغني عن ذلك فالله ليس بحاجة لإقرارنا أو إيماننا به.
(ربنا الله) هو توقيع على عقد.. عبارة تحمل صيغة (تعاقد) ممهورة بتوقيع من يقبل العقد المقدس.. كثيرون ينطقون بهذه العبارة فارغة من المعنى الحقيقي فتظل مجرد (تعويذة) يابسة.
بموجب بنود العقد الرباني:-
نؤمن أنّ المشيئة والإرادة في الحياة الدنيا هي مشيئة وإرادة الخالق لا المخلوق مهما تجبّر وتسلّط.. فهو الخالق، والرازق، والمهيمن على كل تفاصيل حياتنا.. والمدبر لكل أمر في حياتنا.. ولا شريك له في كل هذا مهما كان هذا الشرك أصغر من أن يرى بالعين المجردة.
عندما تواجه فرعون – بكل قهره وقوته – مع السحرة بعد إيمانهم برب موسى.. ونفخ فرعون في وجههم نار الوعيد ردوا عليه بعبارة صلدة لا تتكسر.. (اقض ما أنت قاض..) رغم أنه هو من أتى بهم في المكان لينازل بهم موسى في معركة السحر العظيم..
بمجرد إيمانهم بالله.. انكسرت في قلوبهم إرادة المخلوق (فرعون) وعلت مشيئة الخالق الله.. هو أول بند في العقد المقدس الذي عنوانه (ربنا الله)..
العقد المقدس الممهور بتوقيعنا (ربنا الله)؛ يحمل في بنوده الإقرار بأنّ الرزق من عند الله. وأن المخلوق مهما علا وتجبّر، ومنح ومنع، فهو مجرد مأمور مسخر لا يناله إلاّ (أجر المناولة).. مجرد أداة توصيل لا علاقة له بالفعل أو المشيئة.. لا يمنح ولا يمنع مهما منح أو منع..
(ربنا الله) تعني (الحرية) بمعناها الحقيقي الأصيل.. إفراغ القلب من كل ألوان الخُضُوع لأيِّ معبود.. تماماً مثلما فعل ربعي بن عامر رضي الله عنه عندما دخل على كسرى ملك الفرس.. فقال له كسرى: “ما الذي جاء بكم؟؟”
فقال: “جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..”
تبدأ الحرية من لحظة إحساس الإنسان بأنّه غير مقيد بإرادة بشر.. فعبادة العباد هي الخُضُوع لهم ولو سراً في داخل النفس وأعماق الضمير المُستتر.
وبمجرد انتهاء مراسيم توقيع العقد.. نُواجه بالبند الثاني (ثم استقاموا..).. ما هي الاستقامة؟
كثير من المفسرين قالوا هي إنفاذ الفرائض وتجنب النواهي.. وهذا تأويل قريب لا يغوص في معنى الآية الكريمة.
لو كانت (الاستقامة) مجرد (كتالوج) تعليمات أمر ونهي لأصبح الإنسان في الكون مجرد آلة مُبرمجة بلا غايات.
الاستقامة هي الطاقة الكامنة في نفس الإنسان التي ترشده لتحقيق الخير في مقاصد الحياة الرشيدة.
وعندما تتحقق (الاستقامة).. يحصن الله المرء من (الخوف والحزن)..
لا يخاف على مستقبل.. (يا خوف فؤادي من غد) كما قال الشاعر الهادي آدم.. ولا يحزن (لا نأسى على ماض تولى).
السر العميق الذي تحمله هذه الآية.. إن الطاقة السلبية الكامنة في نفس الإنسان (الخوف والحزن) تتحول بموجب (الاستقامة) إلى طاقة موجبة دافعة للخير.
روعة