مطيع ومطحنة الصراع الأيدولوجي
ليست الغرابة في إعدام بنجلاديش مواطنها مطيع الرحمن نظامي البالغ من العمر 73 عاما؛ فقد درجت الأنظمة السياسية في العالم الثالث على تصفية الخصوم السياسيين عبر المحاكمات السياسية، ولا مجال للتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، بيد أن الغريب حقا موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي أعربت عن تأييدها لما أسمته “تنفيذ العدالة” ضد من قالت إنهم ارتكبوا “الفظائع” ضد الشعب البنغالي..العالم لم يسمع بفظائع ارتكبها مطيع مما يجعل واشنطن تهلل لإعدام رجل سبعيني. في المقابل ظل العالم يسمع ويشاهد فظائع الرئيس السوري بشار الأسد ضد شعبه.
ليس لنا أن نغوص في تضاريس السياسة في بنجلاديش لننتقد هذا أو ذاك، لكن ما يجب الإشارة إليه أن الصراع بين الفرقاء هناك، صراع سياسي غير أن المتنفذين يستخدمون السلطة لحسم صراعهم مع الآخر بدعم ومساندة من القوة العظمى في العالم.
وسيرة مطيع هي سيرة سياسية بامتياز، وترأس الرجل الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، حزب الجماعة الإسلامية في 2001، وكان قد عارض انفصال بنجلاديش عن باكستان عام 1971، وانتخب عامي 1991 و2001 نائبا في البرلمان. وعين وزيرا للزراعة في 2001، ووزيرا للصناعة في 2003 حتى 2006.
وبدأت حكومة دكا بعد أن عجزت عن مقارعة مطيع بالحجة في نبش ملفات قديمة عمرها 45 عاما وأنشأت محكمة خاصة كلفت بمراجعة قضايا انفصال بنجلاديش عن باكستان، حيث شرعت في محاكمة مطيع وقيادات أخرى. وتوصلت المحكمة إلى حكم بإعدام الرجل حيث نفذ الثلاثاء الماضي. وبعد صدور الحكم علق مطيع بقوله: “التهم الموجهة إلى مستوحاة من عالم الخيال، وهي أكذوبة التاريخ، حيث لا توجد أدنى علاقة لي بأي من التهم الموجهة إلي”. ورفض مطيع طلب العفو من رئيس الدولة، قائلا إنه “سيطلب العفو من رب العالمين”.
وكان رفض تركيا لتنفيذ حكم الإعدام جليا وعلى مستويات مختلفة؛ ورفض الرئيس رجب طيب أردوغان الحكم بلهجة شديدة بقوله: “إنني أدين بشدة تلك العقلية التي تقرر إعدام مجاهد في بنجلاديش، ونعتقد أنه لم يرتكب أي خطيئة دنيوية، وأرى أن تنفيذ الإعدام رغم كل المبادرات التي نقوم بها، تصرف غير ديمقراطي وطريقة غير عادلة”. واستدعت أنقرة سفيرها في دكا.
وقد وصفت منظمة (لا سلم بغير عدل) في إيطاليا إجراءات المحكمة بأنها “سلاح انتقام سياسي هدفه الحقيقي استهداف المعارضة السياسية”. وأعربت منظمة العفو الدولية عن صدمتها من قرار المحكمة.
وسبق لحكومة دكا أن أعدمت خمسة من القادة السياسيين البارزين يمثلون عددا من الأحزاب المعارضة، كما حكم على عدد كبير من القادة الآخرين بالمؤبد وبالإعدام. وأشاعت تلك الأحكام الفوضى والإضطراب في البلاد مما أسفرت عن مقتل 200 شخص.
إن الصراع السياسي في بنغلاديش لا ينفصل عن ذلك الصراع الذي يدور على نطاق دولي واسع بين دعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة من ناحية وبين دعاة الإسلام باعتباره منهج حياة، من ناحية أخرى.
تقول الحركات الإسلامية في العالم إنها تعمل على نشر الإسلام وسيادة الفكر الإسلامي واعتماده أسلوب حياة وبديلا للفكر الغربي القائم على العلمانية والرأسمالية..لقد كانت الدولة العثمانية إحدى آخر التجارب الإسلامية ما قبل الحربين العالميتين والتي كانت من نتائجهما سيادة الفكر الغربي القائم على العلمانية وامتداد تأثيره على العالم الإسلامي وقد ظهر ذلك بشكل صارخ في تركيا وكان كمال أتاتورك رأس الرمح في ترسيخ بديل علماني صارم مدفوع ومدعوم من قبل المنظومة الغربية التي شكلتها الحرب العالمية الثانية بشكل خاص.
لقد كانت الدولة العثمانية هي النقطة التي انتهى عندها صعود الإسلام وتفوقه في كافة المجالات بعد أن سادت تلك الدولة لأكثر من ستة قرون (1299م – 1924م)..وكانت دعوات العلمانية والقومية القادمة من الغرب تأكل في الأساس الفكري للدولة العثمانية.
والغرب الذي يؤمن بالعلمانية نظام حياة شامل يريد نظمًا سياسية في الدول الإسلامية تتماهى مع ما يؤمن، وهذا ما يصطدم تمامًا مع رؤية دعاة المنهاج الإسلامي ولذا يشيع الغرب عبر آلته الإعلامية الضخمة أن ما يسميها بحركات الإسلام السياسي تسعى إلى الوصول إلى الحكم والاستفراد به، وبناء دولة دينية ثيوقراطية وتطبيق الشريعة الإسلامية التي لا تصلح في رأيه للعصر الحالي..ويجد الغرب في التيارات الليبرالية أو الحركات العلمانية ضالته حيث تلقى فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية في السياسة عدم قبول لديها، فهي تؤمن بالرؤية الغربية وتريد بناء دول علمانية، وأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية شأن خاص بالفرد المواطن ولا شأن للدولة فيه.