الناس أم عَرقًا ينضح
كل في شيكاغو ينقلب كل شيء رأسًا على عقب، فالنزاعات بين العمال وأرباب العمل بلغت ذورتها في مدينة الصناعة الأميركية، من أجل تخفيض ساعات العمل اليومي إلى ثماني ساعات. العدوى انتقلت إلى هاميلتون، ثم تورونتو، ثم عمت المدن الأميركية والكندية خلال فترة وجيزة من العام 1886، ذلك أجبر السلطات هنتك إلى سن ما عرف لاحقًا بقانون الاتحاد التجاري في كندا 1872م.
منذ ذلك الوقت، بدأ العمال الذين كان أرباب العمل يستغلونهم سخرة، في التحرر – إلى حد ما- من عبودية العمل وأصحابه، فشكلوا أجسامًا مطلبية (نقابات، روابط، اتحادات جمعيات، وكونفيدراليات)، تدافع عن حقوقهم ومكتسباتهم، بتضمينها الدساتير والقوانين المرعية والمعمول بها، وهكذا إلى أن برز الزعيم العمالي الأميركي الكبير (بيتر ماكغواير)، وكان مناضلًا حقوقيًا فريدًا ونقابيًا فذًا، وكان يجوب أميركا الشمالية طولها وعرضها ينظم الحركة العمالية المطلبية، ويحركها ويحرضها لتثور في وجه أرباب العمل والمؤسسات، إلى أن دُعي 1882، لحضور أحد الاحتفالات بعيد العمال في تورونتو (كندا)، فاستهلم منه فكرة عيد العمال وحين عاد إلى نيويورك نظم أول عيد في نفس اليوم، في الخامس من سبتمبر من كل عام، ثم رويدًا رويدًا تحول الاحتفال إلى مفتتح مايو من كل عام عطفًا على ذكرى قضية هايماركت الشهيرة.
إلى الآن، لا يحظى العمال في بلادٍ كثيرة بحقوقهم، يعملون لساعاتٍ طويلة، أكثر من ثماني بمقابل ضئيل، كثيرون يعملون تحت ضغط شديد لا يتمتعون بإجازات ولا تأمين صحي، ولا تعويض مناسب جراء أصابات العمل، ولا يزال بعضهم/ بعضهن يُستغل كسخرة.
والحال، إن العمل هو أساس وقاعدة الإنتاج، بل هو أساس وفرة السلع والخدمات وتجويدها وإتقانها، فبدون عمال وفنيون مهرة لن تنتج أي مؤسسة زراعية أو صناعية أو حرفية سلعة جيدة، ورأس المال لا يستطيع أن يتراكم ويزداد دون العمل، وحتى القيمة التبادلية (الأسعار) الخاصة بالسلع والخدمات التي يُعبر عنها بالنقود يحددها العمل، كما أن تبادل المنتجات يعبر ضمنيًا عن تبادل العمل، فكل سلعة تحتوي قسمًا محددًا من إجمالي عمل المجتمع الذي يتم الإنتاج داخله، إلا أنه وعن طريق (فائض العمل)، استطاع الكثير من الرأسماليين خاصة الناشطين منهم في القطاع الصناعي والتكنولوجي تكوين احتكارات ضخمة، فأصبحت لديهم القدرة على زيادة أسعار منتجاتهم فوق قيمتها الحقيقية، فيما لا يحصل المنتجون إلاّ على الفُتات.
أول أمس، الأول من مايو، مرّ عيد العمال على بلادنا مرور الكرام، لم يأبه به أحد، لأن قيمة العمل في ظل (السمسرة والمضاربة) والأنشطة الطفيلية للطبقتين الرأسمالية والسياسية أطاحت بها، وفرضت هيمنتها وسلوكها الاستهلاكي والاستغلالي على الأسواق، فأوقفت الإنتاج وأقصته ودفعت بالعمال إلى الانخراط في مهن هامشية، فلم يعودوا يتذكرون (الأول من مايو)، الذي كانوا يغنون له مستحضرين قادتهم وزعماءهم وشهداءهم في سبيل الحصول على حقوقهم: “يا عادي كما العمال والريح الحينها بحين/ يا صاحب كالآمال في عيون المحرومين”.
لكن في أميركا (مهبط) الوحي الرأسمالي، لا يزالوا يحتفلون بعيد العمال ويغنون له، وها هو فيليب ليفين في قصيدته (ما هو العمل؟) يقول الآن فجأة بِتُّ غير قادر على تحمل الحب الذي يغمرك تجاه أخيك، الذي ليس بجانبك أو خلفك أو أمامك لأنه في منزله يحاول أن ينام بعد نوبة ليلية بائسة في (شركة) كاديلاك كي يتمكن من النهوض قبل الظهر لدراسة لغته الألمانية. يعمل ثماني ساعات في الليلة كي يتمكن من غناء موسيقى فاغنر”. وتحية للناس أم عرقًا ينضح إلى أن يبين سِرهم.