شارع جامعة الخرطوم عظمة الماضي الأحمر.. وعنفوان الحاضر الأخضر
يتمدد على تاريخ عريض وبطوله ثورات رفدت الاستقلال
“كتشنر” أشرف بنفسه على بناء الجامعة وشرع بعدها في بناء الـمصالح والوزارات على شارعها
اهتمام “كتشنر” بكلية (غردون) كان لأسباب سياسية.. واختيار الاسم نوع من التكفير
إنشاء الشارع كان قبل (110) أعوام تقريباً الأمر الذي أدخله في زمرة الآثار
معالم كثيرة وبنايات على طراز إنجليزي تفتح أبوابها على شارع الجامعة
شارع جامعة الخرطوم واحد من الشوارع التاريخية المعروفة، والمعالم العريقة البارزة في خارطة العاصمة حيث ترقد على جنباته العديد من الشواهد والبنايات ذات الطابع الإنجليزي المميز الذي لم تستطع لا الدهانات ولا التعديلات التي تجرى كل فترة محو آثار الطراز الذي صممت عليه اللهم إلا القليل منها. وقد كانت هذه البنايات عند تشييدها مخصصة لأغراض ووظائف كيفما اتفق، بيد أن بعضها تم تغييره إلى مسمى آخر فيما ظل البعض الآخر على تسميته.
يتسم “شارع الجامعة” عن غيره من الشوارع المميزة والمعروفة بأنه شارع تاريخي ونضالي قام على أحداث سياسية واحتوت مساراته عدداً من الأحداث التاريخية من ثورات وغيرها كيف لا وقد احتضن ثورة اللواء الأبيض وختم عليه أبطال الثورة بدمائهم الطاهرة “القرشي وعبد الفضيل الماظ”، ربما إذا أمعن وانكفأ أقرانهم وقتها لاشتموها ونفذت إليهم رائحتها الزكية، فضلاً عن كون الشارع الذي يمتد من ثكنات الجيش الإنجليزي وقتها قد خلد ذكرى رحيلهم عبر السكة الحديد وهم يحملون أمتعتهم ويعلنون الرحيل تقلهم القطارات عبر “نفق الجامعة”. وهذا أيضاً دليل عافية النضال والحرية التي كان يُنادى بها وقتها.. وغير ذلك كثير من دفاتر التاريخ وسيرة الشارع، نقلبها في المساحة التالية.
{ شارع أثري
رغم أن الشارع وحسب كثير من الروايات التي تقول إنه يمتد من ثكنات الجيش إلا أن هناك من يقول إن بداية الشارع قبل مدرسة الخرطوم القديمة وبعد إزالتها وتوسيع الشارع ينتهي في وزارة التربية وحتى بري، وقيل أيضاً إنه قديماً كان ينتهي بداخلية “البركس” من الناحية الشرقية، حالياً يمتد حتى مقابر بري، وفي اتجاه الغرب تقريباً ينتهي بكوبري توتي. وهناك أحاديث ذهبت إلى أن هذا الشارع في قرون خلت لم يكن له أثر، فقط هناك شارع النيل، على أن إنشاء الشارع كان قبل (110) أعوام تقريباً الأمر الذي أدخله في زمرة الآثار.
وإذا عدنا أدراج ذاكرتنا القهقرى مستصحبين في ذلك التاريخ، فلابد من التطرق لذكر اللبنة الأولى لـ”جامعة الخرطوم” نفسها التي انبثق منها الشارع وسمي باسمها.
{ بناء سودان جديد
كانت موقعة “أم دبيكرات” التي وقعت في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899م هي آخر الحروب البريطانية في السودان، وبعدها آلت كل زمام الأمور للحكومة البريطانية، فشرع اللورد “كتشنر” في بناء سودان جديد على الطريقة البريطانية، فكانت أول مشروعاته بناء كلية جامعية تخرج كوادر تدير الدولة، وأشرف بنفسه على بناء الكلية، وأسـتجلب لها خصـيصـاً أكـثر من (700) عامل وفني مصـري يفهـمون فن الـمعمار، وأيضـاً نحـو مائة مهـندس معمـاري مصـري كانوا في الأصل يعمـلون بالجـيش الإنجـليزي وشاركوا في حرب “كتشـنر” ضـد الـخليفـة “عبد الله التعـايشـي”. وكان يشرف بنفسه على سير العمل بصورة حاسمة، حتى أنهـى العـمال العـمل بالكلية تـماماً في الـموعـد الـمحـدد، وبعـدها شـرعوا وبتوجيهات الإنـجليـز في بناء الـمصالح والوزارات الكبيـرة التي ما زالت مـوجـودة حـتى اليوم بشـارع الـجـامعة.
في 8 نوفمـبر من العام ١٩٠٢، قام الفيلد مارشال اللورد “كتـشنر” بافتتاح الكلية التي أطلق عليها هو اسم كلية (غردون التذكارية) وسـط احتفال مهيب حضـره كبارات رجال الأعيان والشخصيات البارزة، وأصحاب الطرق الصـوفية، وعمداء القبائل، وجرت مراسـم الاحتفال بصـورة إنجليزية سودانية مشـتركة عزفت فيـها فرق الموسيقى العسكرية الإنجليزية (موسيـقى القرب) أنواعاً من فنونـها، وشاركت الفرق المصرية العسكرية أيضاً بفواصــل موسيقيـة متنوعة، واهـتم السـودانيون بالمشاركة في هـذا اليوم المهم في حياتهـم بالـمـديح والـذكر على دقات الطـبول والـطار.
{ نوع من التكفير
على أن اهتمام “كتـشنر” ببناء هـذه الكلية كان لسـبب سيـاسـي كبيـر هو خـوفه من أنه وفي حال عدم وجود كلية علمية أدبية بريطانية في السودان لتخريج كوادر تدير جـهاز الخدمـة المـدنية وإدارة الـدولة، أن تسعى حكومة مصــر لسد الفراغ السـوداني في البلاد وتـملأ السـودان مستقبلاً بكـوادر متخصصة وأساتذة ومعلمين من عنـدها، وهذا حتماً سـيكون (حـسـب وجـهة نظـر الإنجـليـز) كوادر سودانية جديدة مغـسـولة الدماغ (مصـرياً)، مما سيـخلق للإنـجـليـز مسـتقبلاً مشاكل في الإدارة، وبخـطـط إنجـلتـرا في السـودان.
اهـتم “كتشنر” بنفسه أيضاً بالإشــراف على الكليـة، التي حملت اسـم الـجنرال “غردون” كتخليـد لذكـراه. يقال إن “كتشنر” قصـد أن يطلق اسم الكلية على خلـفه كنوع من التكفير عن الذنب الذي اقترفه بوصوله متأخراً لنجدته وفك حصاره عام 1885م ورفض أي اسم آخر على مؤسسته التعليمية التي عدّت وقتها واحدة من أقوى المؤسسات. وقوبلت دعوة “كتشنر” بترحاب شديد، خاصة وأنها فكرة تؤدي لخلق أداة لنقل المعرفة الأوروبية وتوفير فرص التعليم لأبناء السودان فانهالت التبرعات من أغنياء بريطانيا لتحقيق هدفه.
{ طراز الأبنية
وإذا أردنا التحدث عن معمار الخرطوم القديمة وملك شوارعها المتوج “جامعة الخرطوم” والشواهد التاريخية التي تنتصب شاهقة على جنبيه فلا يوجد نمط معماري معين أو لون طلاء محدد تتميز به الخرطوم وقتها، إذ توجد مختلف الأشكال والأنماط والألوان في المدينة، إلا أن من الممكن التمييز بين خطوط معمارية واضحة في طراز الأبنية من حيث تاريخ بنائها، ففي المنطقة الشمالية المطلة على النيل الأزرق يظهر النمط الكونيالي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر والعصر الفيكتوري وما قبله وفن العمارة المملوكية الإسلامية، ويتمثل في مباني الوزارات والدواوين الحكومية القديمة التي بناها الأتراك ومن بينها (سراي الحكمدار) (القصر الجمهوري القديم) في المنطقة المحاذية للنيل الأزرق، ويلاحظ أن هذه المنطقة تم تخطيط شوارعها في عهد “كتشنر” على شكل العلم البريطاني (الصلبان المتقاطعة رأسياً وأفقياً وعرضياً)، مستنداً في تخطيطه بشكل عام إلى مخطط واشنطن الأمريكي مع إدخال بعض العناصر العسكرية كبناء ثكنات الجنود (داخليات جامعة الخرطوم حالياً). في عام 1908م، تم تنفيذ مخطط (ملكين) وهو بمثابة تعديل لتخطيط “كتشنر” متأثراً بتخطيط (جاردن سيتي) في القاهرة.
معالم كثيرة وبنايات على طراز إنجليزي تفتح أبوابها على شارع الجامعة، تنفح المارة بعبق الماضي وتهب الحاضر جمالية وقوفها فارهة ضاربة في تاريخ البلاد. جامعة الخرطوم (مجمع الوسط) تحاصر بدايات الشارع على اتجاهي الشمال والجنوب بعد أن تأتيها خارجاً من (البركس) ثكنات الجيش الإنجليزي إبان الاستعمار، “سودان يونت” مسجد الجامعة حالياً، “سودان كلب” وزارة الخارجية حالياً، (دار الثقافة) ملتقى الصفوة الثقافية آنذاك شيدها الإنجليز شرق مبنى وزارة التجارة حالياً و(هيئة البريد والبرق) تغزو بتاريخها الناصع وجدان السودانيين وتستكين في أفئدتهم.
{ مبانٍ موغلة في التاريخ القديم
أيضاً من المعالم التاريخية التي ما زالت باذخة تطل برأسها على شرفات التاريخ.. “متحف القصر” كان هذا المبنى في الأساس لإحدى أجمل الكنائس البيزنطية في المنطقة، قبل أن تتم إزالة برجها وتحويلها إلى متحف مفتوح للجمهور تعرض فيه الهدايا التي تلقاها رؤساء الدولة في السودان وسياراتهم الرسمية، وغيرها من الأشياء التي تسلمها حكام السودان منذ الفترة الاستعمارية وحتى ما بعد الاستقلال. وهو من أكبر المتاحف في السودان، وقد تم افتتاح مبناه الحالي في العام 1971م.
وكان “المتحف” في السابق يقع في مباني كلية الآداب بجامعة الخرطوم، ويضم مقتنيات الحضارات السودانية القديمة منذ العصر الحجري وعهود ممالك مروي ونبتة وحتى الممالك المسيحية والعصر الإسلامي، وقد نقلت إليه بضعة معابد فرعونية قديمة، ويشكل الفناء الخارجي له متحفاً مفتوحاً على الهواء الطلق حيث تقوم فيه عدة تماثيل وأعمدة ونصب تذكارية بمختلف الأحجام. وتنافس مقتنياته ما هو موجود من نوعها في متاحف مدن كبيرة كالقاهرة ونيويورك خاصة تلك التي تمثل الحضارات القديمة.
{ يقصده كبار زوار الخرطوم
ومن بين تلك الآثار التاريخية التي ترقد على جنبات شارع “الجامعة” (القصر الجمهوري) القديم، شيده الإنجليز قصراً للحاكم العام، يقع في شارع النيل بمنطقة المقرن ويضم مسرحاً وقاعات اجتماعات دولية وقاعة سينما مفتوحة للجمهور، تم بناؤه في سبعينيات القرن الماضي بواسطة الصينيين، وهو معلم تاريخي يعود بناؤه إلى عام 1821، وقد قتل فيه الجنرال “غردون” حاكم السودان الإنجليزي المصري، ويشكل السلم الذي سقط منه “غردون” صريعاً على يد الدراويش والذي ظهر في لوحة زيتية انتشرت في الغرب، يشكل هذا السلم معلماً يحرص كبار زوار الخرطوم من القادة والزعماء الأجانب على مشاهدته. وكان القصر الجمهوري يعرف آنذاك باسم سرايا الحاكم العام، وهو غير مفتوح للجمهور لكن يمكن المرور أمامه من الناحية الشمالية المطلة على النيل أمام الحرس، كما تقام أمامه كل يوم (أربعاء) عملية تغيير الحرس التي تعدّ فعالية سياحية يحرص على مشاهدتها الكثير من زوار الخرطوم. وقد كان القصر مقراً لرئيس الجمهورية قبل أن يتقرر تحويله إلى متحف بعد انتقال رئيس الجمهورية في العام 2014م إلى القصر الرئاسي الجديد بالقرب منه.
وعلى امتداد الشارع يتكئ متحف التاريخ الطبيعي، ويحتوي على حيوانات محنطة وأخرى حيّة بهدف التعريف بما هو متوافر في السودان من زواحف وطيور ومواشٍ وحشرات تعريفاً علمياً، وتلعب جامعة الخرطوم دوراً مهماً في استمرار هذا المتحف والحفاظ عليه.. ومن الطيور الموجودة فيه صقر الجديان الذي يمثل شعار جمهورية السودان. وليس ببعيد عنه يوجد “متحف الاثنوغرافيا” عند ملتقى شارع الجامعة بشارع المك نمر، وتعرض فيه نماذج من الأدوية التقليدية المستعملة في الحياة اليومية بالسودان ونماذج من أسلحة الصيد وأدوات الزراعة والإنتاج لدى القبائل المختلفة بالسودان، إلى جانب نماذج من أزيائهم وآلاتهم الموسيقية، ومركز الفولكلور التابع للهيئة القومية للآداب والفنون.
{ وزارات ومبانٍ أخرى تزين الشارع
وهناك بنك (باركليز) البنك الرئيس على أيام الحكم الإنجليزي وبعد الاستقلال أصبح البنك المركزي (بنك السودان)، فضلاً عن مبنى البرلمان (المجلس التشريعي لولاية الخرطوم) حالياً، وبلونها الرمادي الذي يزيد الشارع ألقاً تقف الهيئة القضائية شاهقة كشامة في خد الشارع منذ أن شيدها النظام الإنجليزي، كذلك الجانب الخلفي لسرايا السيد “علي الميرغني”، رئاسة الأمم المتحدة مبنى (UNDP) حالياً، حديقة الحيوان مزار السودانيين وغيرهم آنذاك، وفي توأمة تتلازم رئاسة الهيئة القومية للكهرباء (سابقاً) والمياه في زمان لم تنفصلا فيه، وتجسد الكلية القبطية أشهر الصروح التعليمية بأيدي الإنجليز وترمز للتسامح الديني واحترام العقائد، إلى جانب وزارة الزراعة، وزارة الرعاية الاجتماعية ووزارة الثقافة والإعلام.. جميعها معالم قديمة شيدت على طريقة إنجليزية خالصة لم يطلها الطلاء الحديث ولم تؤثر فيها المدنية، تقف كمعالم أثرية وتتقاسم الاتجاه الشمالي والجنوبي لشارع الجامعة.
{ في السياق
بالرغم من أن التوثيق يعنى بالشارع إلا أن جامعة الخرطوم هي (ست الاسم) والملكة المتوجة عليه كما ذكرنا آنفاً في السياق السابق الذي كشف أيضاً أثريتها عقب تخطيها للعام المائة بأربعة عشر عاماً تقريباً عندما افتتحها “كتشنر” بعد بنائها بمساعدات مادية جلها بريطانية، بيد أن هذا الصرح التاريخي تعرض لشائعة تقر ببيعه أو إخلائه كادت أن تخلق فتنة وخرجت من الرفض المحلي إلى العالمي بعد الوقفة الاحتجاجية التي نظمها خريجو الجامعة أمام السفارة البريطانية بلندن.. لكن الحكومة احتوت الأزمة بنفيها القاطع للشائعة.
توثيق ـــ أمل أبو القاسم
صحيفة المجهر السياسي