منى عبد الفتاح : السودان ومزيد من الانقسام
حالة من عدم التوازن التي يمر بها السودان الآن، يمكن اعتبارها من أخطر حالات الانقسام السياسي التي مرت على البلاد منذ استقلالها عام 1956م. تتجلى هذه الحالة في بروز نوع من الانقسام على مستوى مؤسسة الحكم من جهة، وانقسام المعارضة من جهة أخرى. تعدّت هذه الحالة نطاق الانقسام الجغرافي بانفصال الجنوب عام 2011م وإنشاء دولة مستقلة، إلى آخر سياسي على مستويي الحكومة والمعارضة ليتم إضافته لما هو قائم من واقع منشطر أصلاً على المستوى الأيديولوجي، والتنظيمي، في السودان الشمالي.
لم يخلُ تاريخ الدولة السودانية الحديثة من الخلافات، فقد كانت الخلافات والانشقاقات في زمن وحدة السودان الجغرافية تأخذ طابعاً فكرياً وتنظيمياً، ولم تصل مرحلة التداعيات السياسية إلى هذا الشكل الحالي إلّا بعد الانفصال. ولم تقتصر الانشقاقات على جهة دون أخرى، فقد ظهر الانقسام داخل نظام الإنقاذ مبكّراً وتمثّل في الانشقاقات التي عرفها حزب المؤتمر الوطني الحاكم كخروج جماعة الإصلاح، على التنظيم بدعوى المناصحة، والانشقاق داخل الجيش في محاولة لقلب نظام الحكم.
على صعيد المعارضة فإنّ الانقسام الداخلي بصيغته الراهنة، يواجهه الخلل التكويني المرتبط بالجغرافيا السياسية، حيث نجدها منقسمة بين المعارضة السلمية متمثلة في الأحزاب السياسية الشمالية وبين المعارضة المسلحة التي اجتمعت في تكوين الجبهة الثورية الجامعة للحركات المسلحة من دارفور بالإضافة إلى الحركة الشعبية (قطاع الشمال).
ومنذ أن طرحت الجبهة الثورية نفسها بديلاً لأحزاب المعارضة السلمية، وتبنت العمل المسلح في اختلاف للخطاب والتكتيكات، تحوّلت المعارضة السياسية من معارضة نشطة إلى خاملة بانتظار أن تنفذ الجبهة الثورية برنامجها السياسي والمجتمعي وتتحمل تبعات التغيير عنها. وبالرغم من تشابه الأهداف والعمل المشترك لإسقاط النظام إلّا أنّ المظاهر المتنوعة لصراع المعارضتين مع النظام تعمل على تعميق المواجهة وليس التنسيق بينهما. جاء ذلك بعد ازدياد المخاطر السياسية المباشرة، تحديداً التعدي على المدنيين في مناطق النزاع.
تبدى جلياً بعد انفصال الجنوب أنّ الخوف لم يكن من الانقسام الجغرافي فحسب، وإنّما مما ظهر من أشكال تهدّد وحدة الأهداف ووسائلها وإستراتيجية العمل من أجل استرداد الديمقراطية. فقد ظهر نوع من الانقسام يتجاوز انقسام السلطة على نفسها وانقسام المعارضة إلى آخر بات يضرب في قدرة الشعب من أجل الوصول إلى أهدافه الوطنية، بل أخذ بعداً آخر وهو الثقة في المعارضة بشقيّها ما يهدّد إمكانية الوصول إلى الديمقراطية نفسها.
اتسمت حالة الانقسام السياسي في السودان أيضاً باختلال توازن النظام الاجتماعي، حيث برزت إلى السطح أزمة الهوية. هذه الأزمة التي جاءت كنتيجة حتمية لفشل حكومة الإنقاذ في تحقيق نوع من الاندماج السياسي والوطني لأسباب تتعلق بطبيعة رؤى النظام. فلم يتوان النظام الحاكم يوماً طيلة عقدين من الزمان في إبراز هويته ومقاصده على حساب المكونات الأخرى. وأخذ يعبأ بخطر حمّل هذا التركيز في طياته ضرورة الارتكان إلى قاعدة أخرى تتمثل في نقاء العرق، ما عمل على احتدام الصراع بشأن إعلاء تكوينات قبلية على أخرى. ثم وصل الأمر إلى التمييز بين هذه المجموعات على أساس قاعدة أخلاقية للمنتمين إلى العنصر الشريف ونبذ غيرهم من العناصر وبذا ضاقت مساحة التنوع وتلاشت أسس التعدد.
ما يجري الآن من حالة انقسام هي تتويج لعهد كامل من الخلافات العميقة والمتراكمة التي واجهت الحالة السياسية السودانية في شكلي الحكم والمعارضة منذ نشوئها كمشروع حركة خلاص وطني والذي ازدادت إشكاليته مع نشاط الحركات المسلحة. وبالتالي فإنّ الانقسام لم يؤثر سلباً على المشروع الوطني فحسب، وإنما هدم ركيزة هامة كان يؤمل الوصول بها إلى تسوية سياسية، كما أثّر على فكرة المواطنة نفسها نتيجة لقمع الحقوق وغياب العدالة الاجتماعية. وما زال الشعب السوداني يمعن النظر في الأفق ويأمل في مبادرة تقود لأي حلول عملية تنهي حالة الانقسام وتبني بدلاً عنه أساساً سليماً يحترم التنوع والتعدد على المستويين الاجتماعي والسياسي.