هل يصبح كشف الحساب منهجاً لدحض دعاوى التهميش؟؟
تسعة عشر عاماً انقضت على مؤتمر الأمن الشامل بولايات دارفور الذي عقد في عام 1970م، وما بين دراما ذلك الحدث والمشهد، وفي ذات مشهد (الاثنين) الماضي بميدان الشهيد “السحيني” وقف الرئيس “عمر البشير” حينذاك وقد فاجأ المؤتمرين بارتداء ملابسه العسكرية عليها شارات حمراء وهي شارة خاصة بمجلس قيادة الثورة، لم يرتدها “البشير” بعد حل المجلس إلا في مناسبتين، الأولى حينما خاطب مؤتمر الأمن الشامل لولايات دارفور، والثانية يوم إعلان قرارات الرابع من رمضان التي وضعت الراحل “الترابي” في السجن ونقلت كامل السلطات والصلاحيات حتى (الروحية) للقصر.. وحتى اليوم يحتفظ الرئيس “عمر البشير” بتلك الشارات الحمراء، ربما استدعت الحاجة إليها في يوم ما.. ونحن في بلد لا تنقضي أزماتها ومشكلاتها!!
في مشهد نيالا ذلك الصباح كان رجال الدولة هم د.”حسن الترابي” ود.”علي الحاج”.. و”جورج كنقور أروب”.. و”أحمد إبراهيم الطاهر” والمهندس “آدم الطاهر حمدون”.. والدكتور “رياك مشار” رئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية.. وكان ولاة دارفور هم د.”الحاج آدم يوسف” والمهندس لواء “عبد الله صافي النور” والشيخ “إبراهيم يحيى”.. وبعد مرور تسعة عشر عاماً من الزمان لا يزال الفصل والقرار بيد الرئيس وحده.. ولكن تغيرت الوجوه.. وتبدل الزمان.. وبقي ميدان الشهيد “السحيني” ثابتاً.. مثل جبل (الداير) الذي تغنى له “عبد الكريم الكابلي” وهو الآخر قد هجر غصون توتي أم خضاراً شال.
بعد سبعة عشر عاماً من الزمان أصبح “الترابي” في ذمة الله.. ود.”علي الحاج” معلقاً على الأحداث، وكان صانعاً لها.. وذهب “جورج كنقور” بقامته الفارعة.. ورسم الدهر تجاعيده على وجه (النويراوي) الوسيم د.”رياك مشار” وذهب الجنوب نفسه إلى حال سبيله كدولة مستقلة عن السودان.. وصعد د.”فيصل حسن إبراهيم” من بنك الثروة الحيوانية إلى ثاني وزير في الحكومة بعد د.”فضل عبد الله” الذي بزغ نجمه مع بزوغ فجر سودان بلا ملكال وجوبا.. وأصبح د.”فضل” أقرب لـ”البشير” من حبل الوريد.. وانتقل الأمير “أحمد سعد عمر” من معارض إلى مشارك، ود.”أحمد بلال عثمان” من تاجر أدوية إلى اختصاصي لعلاج أمراض الإعلام.. وتخرج “ياسر يوسف” الطالب حينذاك ليصبح ثالث أهم قيادي في المؤتمر الوطني.. وجلس “الحاج آدم يوسف” في الصفوف الأمامية، ولكن مقدم برنامج الاحتفال قد أسقطه من قائمة (المرحب) بهم.. بينما مجرد ذكر اسم “حميدتي” هتفت نيالا فخراً بذلك الشاب نحيف البنية.. ويوم أن قدم “أمين بناني نيو” (صهره) الرئيس “البشير” في ذلك اليوم ليخاطب الجماهير ويعلن التزام الحكومة بقرارات الأمن الشامل.. التي كانت أقرب لنبض المعارضة.. ومكافأة حاملي السلاح.. في تلك اللحظة.. حملت عربة مواطناً أصيب برصاص في رأسه والدماء تنزف وتبلل ثيابه لتقديمه لـ”البشير” في لحظة صعوده لمخاطبة الجماهير.. وكانت دماء ذلك الشاب مهراً لقرارات أعلنها الرئيس بفرض حالة الطوارئ وإطلاق يد القوات المسلحة للقضاء على النهب المسلح وساد الصمت المكان.. وقال د.”خليل إبراهيم” لكاتب هذه المقالة.. والأستاذ “حسن البشاري” الصحافي الرقم الآن بدولة قطر، إن دارفور تدخل الآن في نفق جديد، ولكن “سراج الدين حامد” يقول.. انتهى مؤتمر الأمن الشامل يوم بدأت جلساته.. وكان ما وراء المشهد خلافات وصراعات صامتة وتوجسات.. وخوف من مهندس ذلك المؤتمر الشيخ “إبراهيم السنوسي”.. وظن البعض أن الرجل يجمع الغرب الكردفاني والغرب الدارفوري.. لمواجهة السودان النيلي، وهي ذات نظرية “جون قرنق” صراع الهامش والمركز، ولكنها تخوفات وهمسات في جوف نظام شمولي لم يتعود بعد على اختلاف الرأي والمواقف.. مثلما تغيرت الإنقاذ اليوم وأصبحت حتى طائرة “البشير” تحمل في جوفها.. (المتناقضات) والفرقاء في المواقف والشركاء في الحكم.. و”البشير” يقف مع النظام الفيدرالي متعدد الولايات، ود.”التجاني سيسي” مساعده الأول في القصر مع الإقليم الواحد، ويداعب “البشير” في ميدان “السحيني” د.”السيسي” بالقول (الدمنقاوي حقك راح)، وفي عام 1997م، كان الدمنقاوي د.”سيسي” معارضاً شرساً.. ولكن بأدوات نظيفة ولسان لم يتسخ بساقط القول كما كان يفعل أقرانه في التجمع الوطني الديمقراطي.. وما بين نيالا في تلك الأيام أي انعقاد مؤتمر الأمن الشامل.. حيث شكل النهب المسلح وحده تهديداً حقيقياً لأمن الوطن.. وبين اليوم حيث استطاعت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع القضاء على التمرد.. الذي هو تطور طبيعي لعصابات النهب التي شكلت النواة الأولى للتمرد قبل أن يقفز على ظهرها السياسيون وتوظيفها لمصالحهم.. بيد أن اتفاقية الدوحة التي جاءت بالدكتور “التجاني سيسي” و”بحر أبو قردة” و”تاج الدين نيام”.. ورئيس أركان قوات حركة العدل والمساواة “عبد الكريم دبجو” وقائد العمليات “حمدين بشر”.. تبلغ الآن مرحلة قطف الثمار وحصاد الزرع في (يونيو) الماضي بحل السلطة الإقليمية بانقضاء الأجل وإعلان نتيجة الاستفتاء الإداري.
{ حصاد كتاب المؤتمر الوطني
بعد أن منح الرئيس “البشير” في خطابه الجماهيري شهادة حسن أداء.. وخص المهندس “آدم الفكي محمد الطيّب” والي جنوب دارفور، دون الولاة الأربعة الباقين بإشادة، وقد أصبح الرئيس “البشير” في السنوات الأخيرة (ضنيناً) بالشهادة لصالح الآخرين، إلا في حالات مثل جنوب دارفور التي عادت إليها الطمأنينة وعزز الرئيس من سياسات الوالي التي اتبعها في (تغريب) ونفي العناصر التي يثبت تورطها في التحريض والنزاعات القبلية إلى سجن بورتسودان الذي سبق أن سجن فيه الشيخ “موسى هلال” في أيام الفريق “إبراهيم سليمان”.. ومنح الرئيس الوالي “الفكي” مشروعية سجن مزيد من الأشخاص الذين يثبت تورطهم في الفتن والصراعات القبلية حماية للمجتمع من شرور هؤلاء.. بل إن الرئيس حث القضاء على تطبيق نصوص الشريعة الإسلامية بقطع أيادي النهابين لسيارات الدولة باعتبار ثمن السيارة يفوق حد القصاص بأضعاف مضاعفة.. وفي فندق كورال سابقاً الذي أصبح (حكومياً) تحت إمرة الوزيرة “مشاعر الدولب” التي بيدها أموال الضمان الاجتماعي المتنامية والزكاة.. والتأمين الصحي، حتى بدت تلك الوزارة المتواضعة المباني من مراكز الثراء والفقر معاً.. جمع د.”محمد العاجب” نائب رئيس المؤتمر الوطني، قيادات جنوب دارفور من إحدى وعشرين محلية.. ومن المركز وأحياء المدينة الثرية للإصغاء للرئيس وهو ينتهج طريقة جديدة في الحوار والجدل بشأن ما يثيره أبناء دارفور عن ضعف مشاركتهم في السلطة.. وشح نصيبهم من المال والثروة وهزال مستوى الخدمات التي تقدم إليهم.. وترك الرئيس لأبناء دارفور في السلطة الإدلاء بشهاداتهم من واقع مسؤولياتهم في الدولة والحزب.. وأمام أهلهم.. وقدم د.”فيصل حسن إبراهيم” وزير الحكم الاتحادي الذي قال إن نواب الرئيس (50%) منهم من دارفور، أما وزارة رئاسة الجمهورية وهي الوزارة الأولى (100%) يسيطر عليها أبناء دارفور، د.”فضل عبد الله” وزيراً و”الرشيد هارون” وزير دولة، أما الوزارة السيادية الثانية وهي مجلس الوزراء، فإن نصيب دارفور (50%)، حيث يتولى الأمير “أحمد سعد عمر” منصب الوزير و”أحمد فضل” وزير دولة، أما في بقية الوزارات فإن نصيب دارفور تبعاً لعدد السكان (22%)، ولكن نسبة مشاركة دارفور تصل لـ(24%)، أي بزيادة (2%)، أما وزراء الدولة فإن نسبة دارفور تصل (38%) بينما نصيبها الحقيقي (22%)، وتبلغ مشاركتها في الولايات (28%) ويتولى (5) من أبناء دارفور منصب الوالي في كل من جنوب كردفان، وكسلا، وغرب كردفان، ووسط دارفور، والنيل الأبيض، وبلغ تمثيل الأحزاب الأخرى من أبناء دارفور (38%)، بينما متوسط تمثيل الأحزاب الأخرى للحزب الحاكم لكل ولايات السودان (32%)، أما بالنسبة للتحويلات المالية القومية منسوبة لجملة إيرادات ولايات دارفور، فهي (83%) والمتوسط العام لبقية ولايات السودان (45%)، بينما تصل المصادر الإيرادية الأخرى من صناديق تنمية وإعمار إلى (106%)، بينما المتوسط حوالي (38%)، ونسبة مشاركة المرأة الدارفورية (12,5%) وبمجلس الولايات الذي يتكون من ثلاث لجان، لدارفور لجنة، والمجلس الوطني الذي يتكون من (12) لجنة فإن نصيب دارفور وحدها (3) لجان، أي النسبة تصل لـ(25%).
أما عن واقع التعليم اليوم مقارنة بالعام 1989م، حينما وصلت الإنقاذ إلى السلطة، فإن عدد رياض الأطفال في دارفور كان (185) روضة واليوم (60) ألف روضة، وتلاميذ مرحلة الأساس بكل دارفور عام 1989م كان عددهم (83) ألف تلميذ وتلميذة، واليوم (1) مليون و(139) ألف تلميذ وتلميذة، أما عدد طلاب الثانويات (89) فكانوا (4) آلاف طالب وطالبة، واليوم مائة وستة وستون ألف طالب وطالبة.. وقد بلغ عدد المدارس الثانوية (534) مدرسة مقارنة بـ(18) مدرسة فقط عام 1989م، وحينما عدد د.”فيصل حسن إبراهيم” هذه الأرقام (همهمت) قاعة فندق الضمان الاجتماعي باعترافات، (والله يا جماعة نحن ما مظلومين)، ولكن جاءت شهادة “بحر إدريس أبو قردة” وزير الصحة أكثر دقة وصراحة.. و”بحر” من عتاة المتمردين في السابق.. يقول إن عدد المستشفيات في دارفور عام 1989م، كان (13) فقط، ووصلت الآن إلى (76) مستشفى، وعدد أسرة المستشفيات ارتفع من (770) سريراً إلى (3) آلاف وستمائة وأربعة وثمانين سريراً، وعدد وحدات الرعاية الصحية الأولية كانت (637)، وصلت الآن (836)، وعدد الاختصاصيين في دارفور كان (8) فقط، واليوم (94) اختصاصياً، وارتفع عدد الأطباء العموميين من (98) طبيباً إلى (353) طبيباً.. وقال “أبو قردة” إن حملهم للسلاح كان بسبب وجود قضايا حقيقية تستدعي أن يحمل الناس السلاح، ولكن الآن تم الاعتراف بتلك القضايا وإقرار معالجتها، وأهم القضايا التي دفعتنا لحمل السلاح هي المشاركة في السلطة ونقص التنمية، ثم بعد ذلك جاءت لاحقاً قضايا النازحين.. وقال “أبو قردة” يقول بعض الناس إن القرار ليس بيد أبناء دارفور، وهي حجة ضعيفة ومردود عليها إن كان هناك شخص (سجمان) غير قادر على اتخاذ القرارات فهي مشكلته هو، واستغل “بحر إدريس أبو قردة” السياسي المنبر الذي أتاحته الظروف له ليقول إن هناك أسباباً موضوعية جعلتهم يبدلون موقفهم من داعمين للإقليم لدعاة ولايات متعددة بالقول إن الحركات التي تحمل السلاح طالبت بالإقليم، لأن المركز كان مسيطراً ومستحوذاً على السلطة والموارد، ولكن اليوم نعتقد أن الأوضاع تغيرت كثيراً والمطالبة بالإقليم تعني أننا سننشئ مركزاً في الخرطوم وآخر في الفاشر.. وعدد د.”التجاني سيسي” حجم المشروعات التي نفذتها السلطة الإقليمية في دارفور وسط عاصفة من الرضا والتصفيق.. وذكر “السيسي” أنه ركز كثيراً على قضايا التعليم والصحة وبسط الأمن من خلال تشييد مراكز الشرطة التي يعول عليها في حفظ الأمن، حيث تم تشييد أكثر من (39) مركز شرطة وتأهيل مثلها وبناء (3) قاعات بالجامعات، وتم إجلاس (9) آلاف طالب بشمال دارفور و(3) آلاف طالب بغرب دارفور و(2) ألفاً بوسط دارفور، (4) آلاف شرق دارفور، وتشييد (25) مدرسة.. وحينما تحدث الرئيس لقادة دارفور بدا على نبرته الأسى وهو يقول هذا (ليس مناً ولا أذى)، ولكننا مضطرون لذكر هذه الحقائق عن التنمية في دارفور، أما عن مستقبل المفاوضات فإن الرئيس “البشير” بعد أن نظر للقائد “حميدتي” قال إن وثيقة الدوحة لن تضاف إليها نقطة واحدة لا تعديل ولا إضافة، وفي (يوليو) من العام الجاري ينتهي أجل السلطة الإقليمية ولن تفاوض الحكومة الذين احترفوا (الارتزاق) في ليبيا وجنوب السودان.
{ ما بعد زيارة “البشير”
كان وجود الرئيس “البشير” في دارفور ذا أثر كبير جداً على الأوضاع هناك.. رغم أن ترتيبات الزيارة كان يمكن أن تشمل مناطق خارج المدن الكبيرة.. مثلاً في نرتتي بجبل مرة، إذ تحدث الرئيس للمواطنين وخاصة بعد العمليات العسكرية واستقرار الأوضاع وطرد التمرد من جبل مرة.. كان أثرها سيكون بليغاً جداً.. وكذلك منطقة (تابت) التي أثير حولها جدل في وسائل الإعلام ومزاعم عن وجود حالات اغتصاب، وقد خاطب النائب الأول الفريق “بكري حسن صالح” من قبل المواطنين فيها.. وهي تشمل مجمعاً كبيراً للخدمات.. وفرض الواقع على الرئيس أن يخاطب مواطني شرق دارفور من خلال لقاءات الضعين.. وأبو كارنكا.. ومظهر هذا التعدد والانقسام في المجتمع جراء فتنة الصراع القبلي نشطت قيادات أهلية وسياسية من ولاية النيل الأبيض جاءت مع الدكتور “عبد الحميد موسى كاشا” ووجدت الانقسام المشين.. وسعت بين الرزيقات والمعاليا ولم تفلح جهودها في حمل الطرفين على التوقيع على مسودة تفسير لمقررات مروي ،التي رفضها المعاليا وتمسك بها الرزيقات، وأصبحت مثل (اتفاق نافع، عقار) الذي وقعته الحكومة (ونطت منه) وتمسكت به الحركة الشعبية.. ومروي (بتوضيحاتها) يمكن أن تصبح قاعدة لسلام حقيقي بين القبيلتين في صراعهما ، الذي امتد من ستينات القرن الماضي.. ومن شأن خطاب الرئيس للمعاليا والرزيقات الدفع باتجاه التصالح وتجاوز المرارات من أجل النهوض بولاية أقعد بها أبناؤها.. وجهود قيادات “بحر أبيض” إذا ما اتصلت.. فإن توحيد تلك الولاية يصبح قريباً.. هذا على صعيد شرق دارفور التي حل بها الرئيس كمحطة أخيرة.. لكن في العواصم الخمس تركت زيارة الرئيس آثاراً عميقة.. سيكون لها ما بعدها في الأيام القادمات.
المجهر