السيد امتحان أكبر
لكل شخص أوقات للمحنة، تختبره فيها الحياة وتذيقه من مر تجاربها، بل قد تتحول حياة أحدهم فجأة إلى مسار من المحن الممتدة حتى مماته، وقد يسمى وقتها بالمؤمن أو الصبور، أو الممتحن العظيم، وهذه الألقاب بالضبط هي ما ناله هذا الرجل الذي ندعوه هنا بالسيد “امتحان أكبر”, فالذي حدث لهذا السيد من مصائب ومشاكل وأزمات وحالات ضيق وكرب مستمرة تجعل محنة أي إنسان يسمع سيرته أو جزءاً منها تتصاغر وتتقزم حتى تصير إلى مجرد منحة صغيرة جادت بها تجارب الحياة حتى يتعلم الإنسان ويتفادى مثيلاتها مستقبلاً، وهذا بالطبع ما لم يحدث للسيد “امتحان أكبر” الذي استمر امتحانه من أول ورقة (محنوية) في أوائل عشرينياته وحتى مماته في الستينيات من عمره.
إذن، هنا، في هذه العجالة، سنعرض نماذج قصيرة جداً لبعض الأزمات التي بدأت بملاحقة السيد “امتحان أكبر” في سلسلة المحن التي لم تنته إلا بانتهاء حياته. أول هذه المحن حدثت حين أكمل السيد “امتحان أكبر” امتحانات الشهادة السودانية بتفوق كبير، جعله في مقدمة طلاب مدرسته، وبدأ يهييء نفسه للالتحاق بـ(الجميلة ومستحيلة) جامعة الخرطوم، حلمه الشبابي العظيم؛ كلية الطب. ما حدث أن “السيد أكبر” والد “السيد امتحان” توفي بعد إعلان النتيجة مباشرة، ولم يكن أمام الابن (البكر) حل سوى تأجيل الالتحاق بالدراسة بحثًا عن عمل حتى يعيل والدته وإخوته الصغار. وبالفعل التحق السيد “امتحان” بوظيفة في أحد الدواوين الحكومية وصبر وصابر إلى أن كبر إخوته قليلاً وقرر مواصلة دراسته والالتحاق بالجامعة وتحقيق حلمه القديم. قدم لمنحة تفرغ من الديوان الحكومي وقبلت، ثم حدث ما لم يكن في الحسبان وهو المحنة الثانية التي ضربت “السيد امتحان”، فذات صباح حدث انقلاب عسكري، وذات صباح تالٍ له أحيل السيد “امتحان أكبر” للصالح العام دون أن يعرف (ما السبب)؟
في هذه المرحلة ما بعد الديوان الوظيفي تكاثفت المحن على السيد “امتحان أكبر” بشكل لم يكن يتصوره أحد، ففي خلال عشرين عاماً عجافاً اشتغل في أسواق: الخضار، المحاصيل، بيع السمك، الموبايلات، الأراضي، الإسبيرات، كما سافر مغتربا إلى السعودية، الإمارات، لبنان، كما دخل سجن أم درمان (شيك طائر)، سجن سوبا (عجز مالي)، سجن (الترحيل) في السعودية، سجن (المتسللين) في لبنان، سجن (المخالفين) في الإمارات. عشرون عاماً بالتمام والكمال تنقل خلالها السيد “امتحان أكبر” بين السجون داخل السودان وخارجه بعد كل فشل عظيم يواجهه سواء في السوق الغول، أو محاولات الاغتراب والهجرة الفاشلة.
غداً سنحكي بعض تلك التجارب المجبولة من محنه.